منسجماً مع كلام سيادة المطران بولس مطر، أدعو الى التدقيق في مصطلح الأقليات، مقترحاً أن نقول وندعو الى حماية التعدد، مع التأكيد على المعنى والدور، بدل التأكيد على العدد الذي لا بأس من احترامه من دون التوقف عنده.. معتقداً بأن هذا جزء من معنى الوطنية والمواطنة.. ولذا فقد كان من رأيي أن لا يقدم الشخص الذي قرأ الدعاء في افتتاح جلستنا (حول الشرق الأوسط) بصفته السنية التي لا انتقاص منها، بل على أنه يمثل بلده العراق، الى ما في كونه كردياً من معنى إضافي. لأن الموضوع الأهم في هذا المؤتمر كله، هو المواطنة، كما قرأنا وسمعنا في الندوات المتعددة، ونحن آتون فعلاً، كما نذهب الى أي لقاء، من أجل توكيد مواطنتنا ومواطنة أي مواطن في أي كيان وطني، ومن اجل تبادل الحماية والاحترام لهذه المواطنة.. وليس من أجل طوائفنا التي لا نخاف عليها، وقد نخاف منها على نفسها وعلينا وعلى الآخرين من ابناء الطوائف، إذا حل الانتماء الطائفي محل المواطنة، أي إذا تحول الدين أو المذهب الى اطار عصبي مغلق ونابذ.. والذي تهدده الأخطار الشديدة هو المواطنة، لا الطائفة التي يأتي الخطر على المواطنة من اعتبارها التعريف التام للفرد أو الجماعة.
وأنا هنا، كلبناني مسلم شيعي عربي بأفق إنساني، بحاجة الى وعي وقناعة الإيراني والباكستاني والهندي والتركي والسوري والمصري وغيرهم، بأوطانهم ومواطنتهم. لأن المواطنة إيمان بالوطن على أساس دولة تضمن هذا الإيمان وتضمن الوطن والمواطن على أساس العدل والمساواة والحرية، ومن دون دولة حقيقية، أي دولة جامعة ومتداولة راعية وعادلة بنسبة مرضية، يبقى مفهوم المواطنة عرضة للاهتزاز والابتزاز، لأن المواطنة كما يقول هابر ماس «هي مسألة دستورية» أي قانون أو دستور على أرض وشعب وكيان، ناظم للحقوق والواجبات المتبادلة بين مواطنين أحرار.
الى ذلك، فإن إيماني بوطنيتي أو مواطنيتي مشروط مفهوماً ومصداقاً بإيمان أهل الأوطان الأخرى بأوطانهم وإنتاجهم للدولة التي تحفظ هذه الأوطان بحفظ مواطنيها.
وإذا ما كانت الدولة ضمانة الوطنية، أو ضمانتها الوحيدة، وكانت العدالة والحرية شرط المجتمع على الدولة، فإننا نرجو أن ننتظر من الشعوب الغربية، التي تعتقد ونعتقد أنها مشبعة بالحرية، أن تعترض على سلوك سلطاتها وإداراتها التي حمت الاستبداد في الشرق الأوسط، وأن تقف في وجهه، ولا تساعد على تحقيق استبداد جديد أو تسانده، مستغلة ثغرات واضحة في مشهد الحراك العربي الراهن، في حين أن تدخلاتها وتواطؤاتها كانت أهم أسباب حدوث هذه الثغرات في تاريخنا الحديث.
إن المواطنة المحمية بالقانون والدستور هي غايتنا وفيها سلامتنا ونهضتنا وسلامنا وحوارنا الإيماني والحضاري، ولأن القانون والدستور، إن وجدا، فإنه يجري انتهاكهما، من قبل السلطات ومعارضتها، فإننا نخاف الآن أن لا تبقى لنا أوطان، وليــس دولاً فقط، إذا ما استمرت الطوائف والطائفية غالبة على المواطنة معطلة للقانون ومصادرة أو مفككة للدولة.
وهذا ينعكس سلباً كما نرى ونشاهد يومياً، على الدين، مهدداً إياه بالانحسار بعد هذا التمدد العصبي والمتوتر.. وقد يصبح الدين أدياناً ويصبح المذهب مذاهب، ويسود الإلغاء المتبادل بالتهميش أو القتل المتبادل، ويصبح الاستبداد الواحد، استبداد الحاكم الواحد أو الحزب الواحد، أو الطائفة الواحدة، استبدادات متعددة متقاتلة بأجساد شعوبها من دون مانع من أن تتفق فيما بينها على حساب شعوبها.
إن نقص الحرية، ونقص الرعاية أو التمييز فيهما بين جماعة إثنية أو دينية أو حزبية وجماعة أو جماعات أخرى، هو الذي يؤدي الى فتن لا يسلم منها أحد، وتمتد الى داخل الجماعة المستقوية والجماعات المستضعفة، لتصبح كل منها جماعات فرعية متناحرة. ومن أجل عدم الانحدار الى الهوية الفرعية القاتلة، ومن أجل ترسيخ وإعلاء المواطنة، لا بد من دولة تعددية ديموقراطية، بقانون ودستور منفتح على المستجدات المعرفية والحياتية. ويتطور من داخله باستيعاب هذه المستجدات وتجاوزها. وشكراً لكل من يريد سلاماً ويعمل له على أي مستوى من المستويات أو دائرة من دوائر الاجتماع الانساني. ونحن في هذا الشرق الأوسط المضطرب والمشتعل بوقود من الداخل والخارج، نريد بداية حقيقية وعميقة وجادة وتوافقية للسلام.. ولا أعتقد أن ذلك ممكن، أو قابل للدوام إذا تحقق، إلا اذا ذهبنا الى بداية السلام الحقيقي في فلسطين.
اني لم آت الى فيينا بتهوفن وموزارت والدانوب، لإظهار أو توكيد شيعيتي، فهي أكيدة وظاهرة في سواد عمّتي.. وأنا أتشبث بها لا على حساب الآخر بل لحسابه، الذي هو حسابي أيضاً، لأنـنا من دون شراكة وتكافؤ نخسر معاً. جئت لتوكيد مواطنيتي أو إبداء الرغبة في المحافظة عليها وتجديدها وأنا اقرأ في أدبيات رجال سلطة كبار في دول فاعلة أن كلامهم في المواطنة مسايرة، لأن الاسلام عابر للأوطان، في حين ان مساحات واسعة من مواطني هذه الدول تعلي من قيمة المواطنة، لأنها تجاهر وتعتقد بالمواطنة.
ما كنت لأذكر هذه المسألة لولا أننا في لبنان معنيون بها لأننا نعاني منها، كما أننا معنيون وخائفون من السلوك التاريخي لبعض القوى والأطراف العربية التي تعتبر الكيان اللبناني مؤقتاً، فلا تعترف به إلا شكلياً ومجاملة، ولا تحرص كثيراً على سيادته وتغلق حدودها عليه وتفتحها متى شاءت.
إن شعوب الشرق الأوسط سوف تصبح أكثر إقداماً على بناء علاقات تبادلية متكافئة مع ايران وتركيا ومصر والسعودية وسوريا، كلما ظهرت إشارات من هذه الدول، على ان حكامها قد رجحوا سلامهم الداخلي واستقرارهم وتنميتهم الوطنية وارتفاع معدلات نموهم وأمنهم ورفاهية ووحدة شعوبهم، على النفوذ في الخارج بذرائع دينية أو مذهبية أو إثنية، لأن ذلك هو الذي يؤسس لتكامل الأدوار والشراكة المعرفية والنهضوية، وتحقيق المصالح المشتركة والمشروعة للجميع بعدالة، وفي طليعتها أو في رأس قائمتها السيادة الوطنية.

كلمة في ندوة حول الشرق الأوسط من ضمن فعاليات مؤتمر «أديان» من أجل السلام في فيينا. 21 ـ 11 ـ 2013