لا يحتاج الأكراد، أبناء الجبل أو آباؤه، أو أجزاؤه، أو شماريخه، أو تضاريسه، أو كهوفه الضيقة والعميقة، لا يحتاجون كطلائع تاريخية محاربة في وجه كل معتد من الفرنجة الى المغول وصولاً الى حكام الجور... وطلائع فكرية وسياسية وأدبية، الى الصاق العسكرة بأجسامهم واسمائهم، وفي كل بيت كردي ثوب مدني وثوب كردي قومي عسكري بلونه وطرازه... واسع جداً ليساعد على الركض والقفز أثناء المداهمات أو قصف الطيران، وليكون خزاناً للهواء البارد في أوقات الحر الشديد، ويكون بمثابة وطاء وغطاء، في أيام الصقيع وليالي الجليد... وعلامة خيلاء بسيطة وسلسة أثناء التبختر ربيعاً في الوادي اسفل جبل قنديل أو سنجار بين النرجس وشقاق النعمان والجداول العذبة وأرتال بنات آوى وكورالها الانشادي اليومي.

وربيئات الجيش الوطني المكره على قتل أحبائه تشويهاً للعروبة، التي تم تحويلها من جامع الى مانع، ومن فضاء رحب الى عصبية نابذة، بفعل القوموي لا القومي، والعصبي النابذ لا الانتمائي الواسع.

وعلى كل قميص كردي، أو فستان، مكان مهيأ لشارة عسكرية تظهر وقت الحاجة، ثم تغيب في لحظات السلام.

وهؤلاء المشتقون من الجبال، المزينون بجمالات الطبيعة البكر الخلابة لكأنهم، اذا حكموا أنفسهم مستقلين أو شبه مستقلين مشغولون دائماً في قتال شيء أو أحد، وإن لم يجدوا قاتلوا ماضيهم ليدملوا جراهم فيه، أو يزيلوا ما تبقى من دم على أرغفة خبزهم المر... ولكنه لذيذ جداً... ولكن شوقهم الى العمران والتمدن والتحضير والتحضر والحداثة القلقة على اصالة معقدة، والانتاج والاستثمار والسرد والشعر والغناء لبشمركة (الفدائيين) لحقيقة تشبه الأساطير المؤسسة في تاريخ الشعوب الاستثنائية خاصة ليفرغوا للحياة، وبنادقهم معلقة على مداخل دورهم أو أكواخهم... يمسحونها من الغبار ويزيتونها ويغنون لها أغنيات سلام مجروحة بمفردات الحروب وإيقاعاتها والنية في الإقلاع عنها إن أقلعت عنهم.

غير ان هذا الشوق والإصرار والدأب والسرعة في انجاز المشروع الحضري الكردي كما يشهد التطور اليومي في المشهد من أربيل الى دربند والشهيدة حلبجة، والسليمانية ودهوك وصلاح الدين وعلي بيك، وعقرة، وشقلاوة، ودوكان وجاج عمران الخ... هذا الجنوح الى التمدين، يتباطأ وتخف سرعته، عندما يشتغل في الشروط الاجتماعية لاختيار القيادات السياسية، وكأن هناك ممانعة، ليست بدعاً في الأكراد، الى تجنب القفزات حتى الضيقة منها على طريق تطعيم أو تطوير الثوابت المرنة في قواعد الاجتماع السياسي، بالمتغيرات الضرورية، والتي اذا حصل استعجال في إدخالها في السياق قطعت السياق وأخرت المشروع وعقدته، وأعطت فرصة لقوى التقييد بذريعة ما يسبب التجديد من تقويض للتقاليد.

من هنا، كنا أصدقاء وعارفين بكفاءات الدكتور برهم صالح، ننتظره رئيساً مناسباُ للعراق، وتثبيتاً لائقاً للعرف العراقي الذكي في ترئيس كردي للجمهورية تتوافر فيه صفات الأب أو العم (مام) كالرئيس جلال طالباني، أو الأخ الواسع الصدر والعقل والباني حوله جسراً من الثقة مع البلاد العربية ومفكريها خصوصاً ومع الجيران بمودة وإصرار على الاستقلال والتعاون مع العالم من اقصاه الى أقصاه، معتمداً على ثقافة عامة وتخصيصة وعلى تراث عائلي فكري ونضالي وعلى انخراط في الاتجاه الوطني الكردستاني، من مواقع متقدمة في الكادر الى مواقع متقدمة جداً في القيادة وفي لحظات الضرورة القصوى، خاصة فترة مرض الرئيس طالباني، وظهور الاختلاف العميق داخل الحزب.

ولكننا في نهاية كل حديث حول الموضوع، كنا نصغي الى كلام كردي خبير ومخلص، بأن برهم صالح، يعاني من مشكلة عدم نشأته في الميدان، البشمركة، وان المرور بها لا يكفي وأن بعض المنافسين له داخل الحزب، وبشكل طبيعي قد يحسنون استثمار هذه المسألة، لا ضده، بل ربما من أجل أن لا تكون الحركة باتجاهه قفزة، علماً بأن سنّه وأهليته واحتمالات تطور كردي وعراقي قد تكون مؤشراً على ان برهم صالح ، نائب رئيس الوزراء العراقي سابقاً ورئيس وزراء اقليم كردستان لاحقاً، وأحد الكبار الذين أولويت لهم مهمة صيانة الحزب (الاتحاد الوطني الكردستاني) ونجحوا... هو احتمال أكيد جداً من بين احتمالات اخرى، في مستقبل كردستان والعراق.

إذن فالبشمركة، شرط، وليست محسّناً بديعياً للمنصب الاعلى، أو الوسط حتى، وأحياناً الأدنى، والمسألة تحتاج الى صبر وتأن وواقعية.

وهكذا كان معنى ان يحصل الدكتور برهم صالح على 23 صوتاً من قيادات الحزب على ترشيحه للرئاسة مقابل 30 صوتاً للدكتور فؤاد معصوم، الذي يجمع الى الكفاءة المماثلة سيرة ميدانية فيها وقائع أكثر ومن نوع وقائع الدكتور برهم... من دون أن يستطيع أحد أن يذكر أن تناقضاً ظهر بين الرجلين طوال تاريخ عملهما ونضالهما.

كأنه كان لا بد، كردياً وحزبياً وعراقياً وعربياً وتركياً وإيرانياً... من فؤاد معصوم، الذي يتحسر على ولده (شوان) ولا ينسى حسرته على مكتبته التاريخية التي أحرقت في لحظة فتنة... وعندما التقيته على مائدة كردية في منزله بحضور السيد فخري كريم والوزير رائد والوزير محمود عثمان ووكيل الخارجية الدكتور لبيد عباوي، ذكرني بالرئيس، الأديب المناضل (المام اي العم) جلال طالباني، الذي يسألك أول ما يسألك عما كتبت أو قرأت، ثم يحدثك عما قرأ أو كتب، ثم يردفك خلفه ويذهب الى دواوين الشعر العربي والكردي، ويفترش ديوان الجواهري ويبدو لك انه سوف يقضي الليل كله مع هذا المعشوق المحفوظ غيباً... والسياسة وادارة البلد يا سياد الرئيس، لا يملك الرجل أوهاماً، كل همه أن يقرّب المسافات ويزيل العوائق ويغذي الحوار ويحل المشاكل مانحاً جلّ همه وشغله للقضاء على السلبيات كشرط لأي مشروع نهضوي وحدوي .

حتى ليبدو وكأنه يتلذذ بالاختلاف الذي يعطيه فرصة إظهار الصبر والحكمة...

وأحياناً يتحمس الى حد الاستعداد ليقول لك عما لم يفعل لا عما فعل... لأن فعله في أبوته للعراق أعمق من الكلام... من هنا كان حبه في قلوب الناس، يستقوي على زعلهم منه... الا في حالات كان فيها شيئ يشبه البدعة بين الرئيس والأديب والأب الحنون، ومن على منبره السياسي، وفي لحظات حارجة، يصغي مام جلال يقلبه وعقله وحبه الى شكاوى الأدباء والشعراء والفنانين والعلماء ويأمر بحل المشاكل من دون تردد، على ضيق من فريق عمله الذي ابتلي بأمور فيها جرعة عالية من الأنسنة تزيد كثيراً على جرعة السياسة والادارة... ولكنه جلال طالباني، هذا الكيان المركب من طبيعة كالطبيعة في الكلام والطعام والسياسة والأدب والعفوية الذكية والنكتة المبتكرة فاتحة للحديث أو خاتمة وإن أحوجته المسألة جعل من نفسه أو من الأكراد أو من العرب أو من أحبائه رجال الدين، موضوعاً يركب عليه نكات تمسهم ولكنها تفرحهم وتقربهم الى مام جلال... الذي بادر أو ما استعاد ذاكرته الى الطلب من عقيلته أن تقرأ عليه شعر الجواهري من دون أن ينسى تصحيح الوزن والنحو.

من خصائص، الرئيس الدكتور فؤاد معصوم، على خصوصيته وفرادته المسلّم بها، ثقافة ونضالاً ومواهب ادارية... من خصائصه كثرة وجوه الشبه بينه وبين الرئيس طالباني، شكلاً ومضموناً، أصولاً وعرضاً ولوناً ووجعاً في المفاصل، على مرح... ولكنه أقل، ربما بسبب النشأة في بيت ديني؟! من دون أن يكون بيت الرئيس طالباني فقيراً في الدين، بل ان «المام« حتى في لحظاته الماركسية ظل ممتلئاً بالقيم الروحية والانسانية، ذات المنابع الدينية... ولعله ذهب الى ذلك من نزعته الأدبية أو ذهب الى الأدب من روحانتيه العذبة، جلال طالباني قارئ مرتل للشعر بنهم وشغف يعدي جليسه، وهو مصغ إن داعبت القصيدة أذنه وقلبه... ويكتب ذاكرة وغزلاً إن غمضت عين الرقيب.

وفؤاد معصوم كما تقول مجالسه وكتبه البحثية ذات اللغة الجميلة والصحيحة والأنيقة أديب يطل على الشعر ويستعذبه ويردده بصمت... ويميل الى الإصغاء أكثر من الإلقاء... مع مسحة حزن لا تخفى وتزين أدبياته طريقته في المحادثة والمسامرة... من بعيد ومن قريب ومن دون مطابقة مستحيلة، فؤاد معصوم يشبه جلال طالباني، حتى في ما يختلفان فيه أو عليه، كأنه شقيقه، الذي كان مبكراً رفيقه، وزميله الأول في تاسيس الاتحاد الوطني الكردستاني، بعد اكتمال اسباب الافتراق عن الملا الكبير مصطفى البارازاني في لحظة جعلت التمايز ضرورة، لا عداوة وان اعترت الحالة لاحقاً بعض المنغصات، الا ان المشروع بقي واحداً، وإن تعددت أواليات وألويات انجازه أو تعارضت، أو تناقضت أحياناً، وأملت على «مام« جلال ورفاقه الاقرب أن يذهبوا يساراً مع بقاء قوميتهم وعراقيتهم حاضرة وفاعلة وضامنة.

وكان الاتفاق والاختلاف مع الخلف المميز الرئيس مسعود بارازاني، مصدر حيوية كردية وعراقية، جعلت الحزبين رافعة متعددة الوجوه والألوان لمشروع كردي وعراقي واحد... ما زال يناضل من أجل جعل الوحدة خياراً ثابتاً، مع حرص شديد على أن تكون عادلة وتكون ارباحها أكثر من خسائرها على الجميع.

فؤاد معصوم، المناضل التاريخي، المفكر، الأديب، الرئيس الكردي للعراق التعددي، للعراق المنجز الحضاري بالشراكة الكاملة بين أعراق وأديان وثقافات صنعت ذاتها وتاريخها بالحوار اللازم والقطيعة المجدية، بالجدل الدائم بين الأسئلة المتجددة والأجوبة المفتوحة دائماً على الأسئلة... فؤاد معصوم خريج القاهرة، وأزهرها وابن اسرة دينية أحسنت القراءة والكتابة، وجاءت الى الميدان من الكتاب، من نظام الأفكار والقيم... وفي كردستان وفي العراق، اسر كثيرة جداً، تبدو وكأن التفكير والنضال فريضتها اليومية.

ومن جلال طالباني ورئاسته وإصراره على صيانة الوحدة والتنازل من أجلها، والخلاص الفكري والمسلكي من أوهام التغلب والتغليب والمكاسرة، وإدارة الإختلاف بعمق المفكر وحنان الأب. الى فؤاد معصوم الذي لو كان مكانه برهم صالح، لوجدناه أيضاً في نفس السياق الطالباني، لأن فرادة «مام« جلال تحولت الى نزعة في حزب ورهط... ولا أدري كيف سوف يتصرف فؤاد معصوم عندما يكون السؤال الموجه اليه محرجاً؟ كيف يتخلص، هل يتقن طريقة مام جلال الالتفافية المرحة والذكية، حتى لا يمس مشاعر خصمين سلامهما انفع للعراق من شقاقهما؟

قد يختلف فؤاد معصوم عن «مام« جلال هنا، كما يختلف الأن عن أخيه أو الزميل عن زميله ويتكاملان... من أجل كردستان، أي من أجل العراق، اي من أجل الأكراد والعرب والتركمان وسائر الجماعات الاثنية التي تمنح العراق معناه... وتحصنه رغم الآلام ورغم هذا الاندفاع الاسلاموي اللااسلامي واللاانساني واللاعربي واللاعراقي، على تبديد معنى العراق... الذي سيبقى ساطعاً... يسعدنا أن يكون جلال طالباني مناضلاً وأديباً وأباً وبسمة ودمعة حاضراً في شخص الرئيس معصوم... وأكثر إن أمكن. وأظن ان الرئيس طالباني ونحن... والعراقيين جميعاً سوف نسعد إذا ما اضاف الرئيس معصوم مآثر الى مآثر سلفه... عافاه الله... وابقاه مشيراً ناصحاً مجرِّباً... ومن دون عقد.

ختاماً، هناك من قد يرى ان من مؤهلات فؤاد معصوم للرئاسة هو انه بقي وسطاً في كل منازعات حزب الاتحاد ومنافساته ما قد يعني ان صفة الأبوة لم تكن بعيدة عن شخصيته ولعل رئاسته فرصة لممارستها على مستوى الحزب والكرد والعراقيين عموماً... أعني حضور النموذج الطالباني مرة أخرى.