مع بدء العدوان الإسرائيلي على غزة ومع توالي المواقف الغربية المبرِّرة ل"ردة الفعل" الإسرائيلية على "الإرهاب" الفلسطيني، تعالت الأصوات المستنكرة والمندّدة بهذه الإزدواجية في المعايير؛ فكيف لدم الطفل الإسرائيلي أن يكون أغلى من دم الطفل الغزاوي؟ ولماذا دمعة الأم الإسرائيلية تؤثر في ضمير العالم في حين دمعة الأم الفلسطينية لا تلاقي سوى اللامبالاة؟ 

أسئلة مشروعةٌ ومحقّة طرحتها عليّ تلميذتي في الجامعة، وهي الشابة المتحمسة لحقوق الشعوب المضطهدة، علها تسمع مني إجابةً شافية؛ توقفت برهةً  أفكر، على الرغم من أن الإجابة غاية في البساطة لأن الإنسان إنسان مهما كانت جنسيته أو لونه والطفل طفل أينما وجد ومشاعر الأمهات واحدة في كل العالم ولكل إنسانٍ فلسطيني يُقتَل عائلةٌ تبكيه وأناسٌ يفتقدونه وذكرياتٌ يتركها وراءه تدمي قلوب من أحبّوه! 

لكن، وكما هو الحال مع كل الأسئلة التي تبدو بسيطةً للوهلة الأولى، هناك جوانب أخرى أكثر عمقاً وتعقيداً يتجنب معظم الناس الخوض فيها حتى لا تعكر صفو حياتهم ولا تطرح تحدياتٍ على ما تبنوه من أفكارٍ ومبادئ.  فبالكلام عن إزدواجية المعايير، ليس طبيعياً ولا مقبولاً أن ننسى فخ هذه الإزدواجية الذي سقطنا فيه نحن اللبنانيون سقطةً مدويةً لا مجال لغفرانها. فالكثير ممّن يبكون غزة وأطفالها اليوم هم من تناسوا وتجاهلوا وجع أهل سوريا وأطفالها في الأمس أو حتى شاركوا فيه؛ والكثير ممّن يستنكرون تهجير أهل غزة اليوم هم من تعاموا عن تهجير أهل حمص وحلب والقصيرفي الأمس، والكثير الكثير من الذين يرفضون الإبادة الجماعية في فلسطين اليوم تجاهلوا جرائم الكيماوي في الغوطة بالأمس. 

شخصياً، لا يسعني عند رؤية صور ضحايا الكراهية الإسرائيلية إلا ان اقارنها بذهني بضحايا الإجرام الأسدي الذين لم يجدوا من يدافع عنهم ولا حتى من يبكيهم. ما الفارق يا ترى بين صور الموت الغزاوي وصور "قيصر" التي ستبقى عاراً على جبين عالمٍ رآها ولم يحرّك ساكناً؟ وما الاختلاف بين أبٍ فلسطيني يخرج إبنته من تحت الركام ماسحاً وجهها من الغبار علّها تستفيق وبين والدٍ  سوري يحاول إنعاش طفله من نومٍ أبدي بعد تنشقه غاز السارين؟ مساجد إدلب قُصفَت كما مساجد غزة، ومدارس حمص سُويَت بالأرض كما مدارس غزة، ومستشفيات حلب حوصِرت ودُمرَت كما مستشفيات غزة. إنها إزدواجية المعايير تتجلى بأبغض صورها. لكن لماذا؟ هل السبب هو إختلاف الجلاد؟ أوقد يكون حتى اختلاف الضحية؟ 

يسلِّط علم النفس الإجتماعي والسياسي الضوء على معضلة ازدواجية المعايير هذه إذ أن الدراسات تُظهر أن الشخصيات السلطوية اليمينية (وهنا ليس المقصود باليمين التوجه السياسي بل التمسك بالأعراف والتقاليد والسلطة القائمة Right wing authoritarian personality) هي الأكثر جنوحاً نحو ازدواجية المعايير والنفاق إذ أنها تحاول تطويع الحقائق لتتناسب وأفكارها المترسخة. ويكثر هذا النمط من الشخصية والتفكير عند الأشخاص المؤدلَجين والمتزمّتين دينياً إذ أن هؤلاء تقليديين وامتثاليين بطبعهم، غير منفتحين على "الآخر" وعلى التجارب الجديدة؛ كما أنهم غير معتادين على طرح الأسئلة بل على الخضوع الأعمى والطاعة للسلطة المعنيّة. 

وبالنظر الى الجماعات التي تتبنى المعايير المزدوجة الصارخة كما هو الحال مع أتباع الفكر الصهيوني أو أتباع ولاية الفقيه وقبلهم النازيين، نجد أن المشترك فيما بينهم هو الأدلجة الدينية. فكل فريقٍ يعتقد بامتلاك الحقيقة الإلهية التي لا نقاش فيها. كل جماعة تعتقد انها النخبة المختارة وتبيح قتل وأذية من يخالفها باعتباره أقل شأناً وعقبةً بوجه مشاريعها المقدّسة. 

قد تكون الخلافات بين الكثير من الجماعات المؤدلجة والمتطرفة دينياً أو قومياً كبيرة ظاهرياً، إلا أن ما يجمعها أعظم. فالعقل المؤدلج (بالمعنى الماركسي للإيديولوجيا) يختار معايير تعاطفه أو معاداته لقضيةٍ ما حسب طبيعة الجاني والضحية على حدٍ سواء، فالقواعد والمعايير الأخلاقية لا تشكل حجر الأساس في أي موقفٍ يتخذه بل علاقته بالجاني أو الضحية. فلا يعود الفعل بحد ذاته محوريا بل أطرافه أو المشاركون فيه هم من يمنحوه الشرعية او يحجبوها عنه: تُدان الجرائم إن كان المجرم عدواً او الضحية حليفاً والعكس صحيح فالافعال الشنيعة تُبرَر إن كان المجرم حليفاً او الضحية عدواً. قد يساعدنا النظر الى المسألة من هذا المنظور على فهم التناقضات المثيرة للإشمئزاز التي تحيط بنا فلا نستغرب بعد اليوم كيف للعالم الغربي أن يستنكر سقوط ضحايا إسرائيليين في حين أن الموت يحصد الفلسطينيين بالجملة أو كيف لأتباع إيران أن يرفضوا مجازر غزة ويقاتلوا من أجل القضية الفلسطينية وهم الذين شاركوا في عمليات إبادة وتطهير عرقي ومذهبي في سوريا والعراق ساهمت في التغيير الديموغرافي لهذين البلدين.