وتعرف عملية التثاقف على أنها عملية تغيير في السلوكيات والأفكار والعادات يقوم بها أفرادٌ او جماعات نتيجة اتصالهم بثقافاتٍ أخرى. يمكن لهذا الاتصال أن يحصل لأسبابٍ طبيعية كالعيش في بلدٍ متعدد الثقافات او نتيجة أسبابٍ أخرى كالاحتلال أوالغزو أوالتغييرات السياسية والتي قد تؤدي لدى البعض الى اعتبار الثقافة الجديدة أرفع شأناً من الثقافة الأم.
 
 يعرّف علم الاجتماع الأنماط الثقافية على أنها انماط السلوك التي تحدّدها الثقافة والخصائص والأساليب الأساسية المشتركة التي تميّز الثقافة ككلّ وتحدّد التوجه النفسي لأبنائها. فعند تبني عددٍ كبيرٍ من الأفراد سلوكاً ما، يصبح هذا السلوك عادةً، ومع ازدياد شعبية هذه العادة في المجتمع، تتحوّل الى سابقة والى قاعدةٍ إجتماعية أي الى نمطٍ ثقافي-إجتماعي.

ومن الطبيعي أن تشهد المجتمعات كافة تغيّراتٍ في الأنماط الثقافية والإجتماعية لأفرادها وجماعاتها، وعادةً ما تكون هذه التغيّرات تراكميةً ومعتمِدةً على عناصر مختلفة منها الداخلي المتعلق بالتيارات العاملة داخل المجتمع، ومنها الخارجي كالتواصل مع مجتمعاتٍ أو شعوبٍ جديدة أو تغييراتٍ قد تطرأ على البيئة الطبيعية لهذه المجتمعات او تأثير التكنولوجيا على سبيل المثال. 

 

 

وتتفق نظريات علم الإجتماع على اختلافها (نظرية التطور الطبيعي، النظرية الوظائفية، نظرية الصراع، وغيرها) على أن التغييرات الثقافية-الإجتماعية حركةٌ طبيعية للمجتمعات إلا أنها في معظم الحالات حركة بطيئة تشارك فيها قوى عديدة تختلف في الأدوار ما بين مشجعٍ لهذا التغيير وما بين مقاومٍ له، مما يخفّف من سرعتها ووتيرتها.

 

 

 لكن الأزمات التي قد تعاني منها المجتمعات قد تشكّل عاملاً مسرّعاً لحصول هذا النوع من التغيرات واستمرارها وتجذرها خلال الفترات اللاحقة، وخاصةً في حال وجود إيديولوجيا مسيطرة تعمل، بحسب الفيلسوف الإيطالي الماركسي أنتونيو غرامشي، على تثبيت معتقدات وأفكار وقِيَم القوة المسيطرة وتبرير هذه السيطرة عبر استخدام وسائل السرد الثقافي وصور التنميط الثقافي واستغلال المؤسسات الإجتماعية كالدين والتعليم. 

 

 

وقد برع النظام الإسلامي في إيران في الإستفادة من النزاعات وغياب الإستقرار الأمني والإقتصادي والإجتماعي في بعض الدول العربية من أجل التوغل ثقافياً فيها في مخططٍ بعيد الأمد يهدف في النهاية الى إحداث تغييرٍ ديمغرافي في هذه البلدان، مدركاً لأهمية التغييرات الثقافية-الإجتماعية كحجر أساسٍ في عملية السيطرة على هذه الشعوب. ولم يكن هذا التوغل وليد الصدفة بل عملاً دؤوباً قام به النظام الإسلامي في طهران لخلق نموذجٍ قومي- ديني جديد يسعى للمصالحة ما بين القومية الفارسية والدين الإسلامي، مستفيداً من أخطاء من سبقوه ومدركاً لإستحالة دخول المجتمعات العربية عبر بوابة القومية الفارسية  وحدها. في ظل هذا النموذج، أصبحت إيران والمذهب الشيعي وجهين لعملةٍ واحدة وتم تبني العديد من عناصر التاريخ الفارسي ما قبل الإسلامي وإظهارها للعامّة على أنها جزءٌ لا يتجزأ من الإسلام ومن المذهب الشيعي على وجه الخصوص. ويمكن مقارنة هذا النموذج الإيراني بالنموذج الصهيوني الذي جعل من اليهودية قوميةً وديناً في الوقت عينه، فصار لزاماً على من يعتنق التشيّع إظهار الولاء لإيران كما على من يعتنق اليهودية مبايعة دولة إسرائيل وإلا تمت محاربته كخارجٍ عن "الصراط المستقيم". 

 

 

ولا شكّ في أن النظام الإسلامي في إيران قد نجح - بدرجاتٍ متفاوتة وخلال فتراتٍ زمنية مختلفة- في إختراق المجتمعات العربية الى حدٍّ كبير بحجة وجود المكوّن الشيعي أو غيره من المكوّنات التي اعتبرها ذات إيديولوجية قريبة منه؛ كانت البداية من لبنان حيث بدأ العمل بسهولةٍ نسبية مستفيداً من ضعف الدولة والحرب الطاحنة التي كانت تدور آنذاك، ثم تمدّد في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين، كما استفاد من العلاقات المميزة التي كانت تجمعه بالنظام العلوي في سوريا إبان حكم الأسد الأب ومن بعده وبشكلٍ أقوى مع الأسد الإبن ليدخل سوريا علانيةً خلال الثورة السورية وكذلك الأمر في اليمن لدعم الحوثيين. 


ويمكن لأيّ مراقبٍ للانماط الثقافية-الإجتماعية في هذه البلدان الآنفة الذكر لمس "التثاقف" (Acculturation) الذي تعيشه الجماعات الموالية لإيران في مؤشرٍ غاية في الخطورة عن سلخ هؤلاء عن مجتمعاتهم الأم وفصلهم عن محيطهم مما يشكّل أرضيةً خصبة لنزاعاتٍ جديدة في المستقبل. 

 

 

 

 

وتعرف عملية "التثاقف" على أنها عملية تغيير في السلوكيات والأفكار والعادات يقوم بها أفرادٌ او جماعات نتيجة اتصالهم بثقافاتٍ أخرى. يمكن لهذا الاتصال أن يحصل لأسبابٍ طبيعية كالعيش في بلدٍ متعدد الثقافات او نتيجة أسبابٍ أخرى كالاحتلال أوالغزو أوالتغييرات السياسية والتي قد تؤدي لدى البعض الى اعتبار الثقافة الجديدة أرفع شأناً من الثقافة الأم. 

 

 

وبالتالي، ونتيجةً لنجاح النظام الاسلامي الايراني في الربط بين الفارسية والاسلام الشيعي امام العوام، أصبح من العادي أن ترى عرباً يشدّدون على الأصول الفارسية لبعض الشخصيات الإسلامية الدينية والعلمية ويعطونها الأولوية على الانتماء الإسلامي في تناقضٍ غريب وخرقٍ لأبسط تعاليم الدين الإسلامي (لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى)، بالإضافة الى تبني الكثير من طقوسٍ والشعائر الغريبة عن المجتمعات العربية والمستوحاة من الثقافات الفارسية القديمة.

 

 

ولم تقتصر عملية التثاقف على الأمور الدينية والشعائرية، بل تعدتها الى التعليم والنشاطات اليومية إذ تقوم الكثير من المدارس بتعليم اللغة الفارسية و تتضمن الإمتحانات أسئلةً حول شخصياتٍ إيرانيةٍ سياسية معاصرة كقاسم سليماني مثلاً، بالإضافة الى تعليق صور المسؤولين الإيرانيين في الأماكن العامة وتسمية الشوارع بأسمائهم فتحوّلت بعض المدن العربية الى مستعمراتٍ إيرانية بكل ما للكلمة من معنى، وصولاً الى تفاصيل الحياة اليومية كعرض المسلسلات والأفلام الإيرانية وطهو الطبخ الإيراني وشرب الشاي "على الطريقة العجمية". 

 


لا يهدف هذا المقال بالطبع الى رفض  التبادل الثقافي بين الشعوب على أسسٍ سليمة وصحية، بل على العكس يشكّل هذا التبادل غنىً للشعوب‘ إلا أن المرفوض هو تمرير مفاهيم ثقافية وتعميمها على جماعاتٍ معيّنة بهدف السيطرة "الناعمة" والتدجين لجعلهم يقبلون بهيمنة طرفٍ ما عليهم، طرفٍ يستغلهم في حروبه الإقليمية ويضعهم في مواجهة إخوانهم وشركائهم في الوطن والإنسانية، في سيناريو مخيف ينبئ بإستمرار النزاعات لعقودٍ أو حتى لقرونٍ قادمة.