لا يمكن التعامل مع الأحداث التي تمر في لبنان منذ أكثر من سنة على أنها أحداث اعتيادية يمكن التحكم بها واستيعاب أو محو آثارها السلبية واستعادة نقطة التوازن المستقرة.  فكل ما حصل ويحصل هو سلسلة كوارث متعاقبة باتت الدولة اللبنانية عاجزة عن منع حصولها أو امتصاص ارتداداتها أو لجم آثارها المدمرة.  هي وضعية لم يعد بالإمكان وصفها بأنها مجرد أزمة سياسية عابرة أو ضائقة اقتصادية ظرفية أو مرحلة هبوط يتبعها مرحلة صعود.
بل إن الأزمة الحالية في لبنان تجاوزت في عمقها مطلب الثوار الذين نزلوا إلى الشارع لملاحقة الفاسدين ومحاكمتهم، أي لم تعد مجرد مسألة فساد ومفسدين، أو قضية سقوط أخلاقي، أو ملف قضائي بحق المنتهكين والمخالفين، أو هبوط وتدنٍ في منسوب الوطنية والانتماء عند هذه الجهة أو تلك.

 


ما عانيناه واختبرناه خلال عام هو خروج الأمور عن حد السيطرة، انهيارات بالجملة، قتل جماعي (انفجار المرفأ)، مجرمون لا تجرؤ الدولة على ملاحقتهم، دمار شبه شامل للعاصمة،  فسادٌ استحالَ سجية وخلقاً عامين، إفلاس دولة، شعب منهوب، صراعات عبثية لا حد لها، دستور معطَّل، مزاجية وشخصانية في إدارة المواقع العامة، استنسابية في تشريع القانون وتنفيذه، وصايات دول بالجملة، اختراقات أمنية لا حصر لها، دويلة داخل دولة مرشحة أن تصبح دويلات متعددة بلا دولة، حصار دولي شبه كامل.  هي جميعها مؤشرات موت واحتضار تنذر بنهاية الدولة وتفكك الكيان.

 


هذا يعني أن الأزمة باتت عميقة إلى حد أنها لم تعد مقتصرة على أزمة أداء مسؤول أو حاكم، أو تعديات وفساد شخص أو جهة أو حزب، أو معضلة علاقة بين سلطة ومعارضة، أو لعبة غالب ومغلوب، منتصر ومهزوم، حاكم ومحكوم. ولم تعد مشكلة حقوق منتقصة لطائفة أو دين، أو تزاحم في الأولوية بين الدولة والمقاومة، أو صراع بين محور ومحور، بين "ممانعة" و"إمبرايالية"، بل حتى لم تعد ذات صلة بسؤال الهوية ومكوناتها ومرجعياتها.   فهذه جميعها ارتدادات سطحية وظاهرة لاختلالات بنيوية وتصدعات سحيقة ومتشعبة للأرضية التي يقف فوقها الجميع، أي الأرضية الرافعة لكل أوجه النشاط وصور العلاقات ومستويات الصراع وأنماط التضامن وصيغ التحالف التي تسم الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية بميسمها.

 


لكن أين تكمن المشكلة؟ هل هي في الصيغ الدستورية التي تمثل صلب العقد الاجتماعي اللبناني، والتي كان آخرها اتفاق الطائف، الذي يُعرِّف هوية الكيان اللبناني ويضع قواعد توزيع القوة والثروة وأصول التنافس وشروط تداول السلطة وإدارتها؟  أم في الثقافة والذهنيات والتقاليد والبنى الاجتماعية الراسخة في البيئة اللبنانية التي تنتج الدستور وتتحكم في تفسيره وممارسته، بحيث لا يعود الدستور مرجعية نهائية، بل تكون الرواسب العميقة المحددة للشخصية اللبنانية هي التي تتحكم بسطح الأحداث وقواعد الصراع ومظاهر التضامنات والتحالفات.  أم في قوى الأمر الواقع التي اخترقت مؤسسات الدولة وأنشأت شبكة مصالح ورسخت علاقة زبائنية بينها وبين أفراد المجتمع، وعممت ثقافة ظاهرها أيديولوجي معقلن وباطنها استلاب وتبعية واستبداد مقنع. 

 


لكل من هذه الأسباب نصيبه ودوره في دفع لبنان إلى لحظة الإنهيار الشامل. فدستور الطائف رغم ديباجته الليبرالية والحقوقية الرائعة، إلا أنه اختزن عوامل تناقضه وتفجره من الداخل. فتأجيل إلغاء الطائفية رغم أنها كانت أحد أسباب الحرب اللبنانية، يعني بحد ذاته إرجاء مبدأ الدولة التي تقوم على مباديء عقلانية وقواعد مدنية، بخلاف الانتماء الطائفي الذي جهد مفكري لبنان المؤسسين إعطائه صبغة حضارية وثقافية وحتى فلسفية، في حين هو شكل تضامن مغلق يناظر في نشاطه ووظائفه الروابط والعلاقات العضوية والقبلية التي ما تزال قوام الإجتماع العربي الحديث والمعاصر.

 


تعوَّدنا في لبنان منذ تأسيسه أن لا يكون الدستور والقانون أساس الانتظام العام أو مرجعية لإدارة الخلاف وفضه، فهنالك مرجعيات تعلو على الدستور والقانون، استطاعت ترسيخ عرف سياسي وإجرائي موازٍ للنصوص الدستورية والقانونية، بات هو المتحكم في فهم هذه النصوص وتفسيرها.  فالنصوص الدستورية والقانونية لا تنطق لكن تستنطقه الذهنيات والتقاليد والثقافات السائدة.  ولما كان المجتمع اللبناني مؤلف من تكوينات متعددة مغلقة ذات مصالح متعارضة، كان أساس الحياة السياسية هو التسوية والمساومة الذي يراعي المصالح الجزئية والفرعية على حساب القيمة الكلية الجامعة والمصلحة العامة. وهي ممارسة تقدم حلولاً آنية لكنها لا تحل أصل أية أزمة، بل تراكم التناقضات وتكدسها، وهي وضعية تعمم قيم اللاقانون وثقافة اللادولة، بحكم أن كل فرد يجد في هويته المذهبية الخاصة أساس المعنى والقيمة لوجوده، تكون معه حقيقة الوطن الجامع قيمة ثانوية والدولة فكرة بإمكانه العيش من دونها.

 


هذا ولد تخارجاً بل تضاداً بين النصوص والنفوس، بين القيم المعلنة والثقافة العميقة الراسخة، بين المُصرَّح به والمضمر، بين الدولة كإطار جامع وبين المرجعيات الجزئية المفتِّتَة التي تغطي بدائيتها وسلطتها بأيديولوجيات رديئة، بين المجتمع كوحدة قائمة بذاتها وبين الهويات المغلقة والعدوانية، بين الديمقراطية المتداولة على الألسن وبين الاستبداد والقمع وحتى التأله السائد لدى القيادات والرموز.

 


لنتذكر أن الدولة ثقافة ووعي قبل أن تكون دستوراً وعقداً، والديمقراطية قيم اجتماعية قبل أن تكون قانوناً لتنظيم العملية الانتخابية، والأمة (المجتمع الموحد) ليست حقيقة غيبية أو جوهرية متجذرة في أعماق التاريخ بل هي أيضاً صناعة وابتكار، أي هي إرادة طوعية واختيار حر واختبار حياتي.  ليست الديمقراطية إدلاء بالصوت الانتخابي بقدر ما هي منظومة قيم وأسلوب حياة، وليست الدولة كياناً يضاف إلى التكوينات العضوية، بل هو مستوى وجود إنساني آخر. 

 


أما قوى الأمر الواقع، فهي نتيجة طبيعية لاختلالات وفراغات قاتلة في النص الدستوري، وتجسيد لثقافة القبيلة السائدة والهويات الجزئية المتخيلة والمتضخمة إلى حد التخمة.  هذا ليس تبرئة لهذه القوى ولقياداتها، بل معرفة الاسباب التي تجعل أردأ عينات بشرية تتحكم بمجريات الأمور في لبنان، والأسباب التي تغيِّب أهل المعرفة والخبرة وأصحاب التفكير العاقل والضمائر الحية.  فالبيئة المحكومة لعدوانيات متبادلة ولاعقلانية تفكير وتوجس متبادل بين مكوناتها ورواج ذهنية الغلبة،  لا تنتج سوى قيادات وأطر تجيد: أخذ الصراع إلى نهاياته مهما كانت نتائجه الكارثية، وترسيخ الزبائنية، وتعميم ثقافة القطيع، وتوتير الحساسيات والعصبيات، وخلق الشروخ الداخلية، والجرأة المذهلة في إعلان إنتصاراتها فوق أطلال الوطن المدمرة.

 


بات لبنان "العيش المشترك" نموذجاً مثالياً: لدولة فاشلة أعطبها التأجيل والتسويات، وبيئة مجتمعية ما تزال تؤثر القبيلة (طائفيتها المغلقة وعصبياتها الموتورة) على المدنية، وكيان مصطنع لم يحسم أمره في أن يصبح أمة Nation.