الاختلاف بين فكرة ولاية الفقيه التي اعتمدها السيد الخميني أساساً لثورته وركيزة للنظام السياسي القائم في إيران من جهة، وبين فكرة ولاية الأمة على نفسها التي اعتمدها الشيخ محمد مهدي شمس الدين بصفتها قاعدة لانتظام عموم المسلمين وخصوص الشيعة من جهة أخرى، هذا الاختلاف لا يمكن اعتباره مجرد اختلاف في الاجتهاد الفقهي أو اختلاف في تقديم دليل على آخر أو ترجيح دلالة على أخرى، بقدر ما نجده اختلافاً يصل في عمقه إلى مفهوم الإمامة نفسه المعتمد عند الشيعة الإمامية، إن لجهة ماهيتها أو تعيين حدودها وتشخيص مهامها.

 


فالاجتهاد ليس مجرد عملية آلية في استنباط حكم من نص ديني أو دليل شرعي، بل هو عملية ذهنية تقوم على افتراضات مسبقة ومسلمات ثابتة يستند إليها الفقيه في استدلالاته. كما إن النصوص الدينية لا تتكلم لوحدها ولا تكشف عن معانيها بنحو الإظهار اللفظي أو اللغوي المباشر، بل القاريء، فقيهاً كان أم مفسراً أم كلامياً، هو الذي يُظهر معاني النصوص الدينية ودلالاتها بعد ممارسة نشاط عقلي واجتهادي داخل النصوص استناداً إلى أدوات معتمدة سلفاً وثوابت مسبقة.

 


يتأكد هذا حين تتم صياغة مفهوم ديني يتولد من تركيب وضم عدة أدلة (نصوص) بعضها إلى بعض، مثل مفهومي ولاية الفقيه وولاية الأمة على نفسها، اللذان لا يُعتبرا حكماً دينياً أو تكليفاً شرعياً يتعلق بالسلوك بنحو مباشر، بل هما مفهومان عامان تتأسس عليهما أصول ومباديء الانتظام السياسي والديني للمجتمعات المسلمة.  ما يجعلهما إطارين كليين متباينين لتفاصيل الحياة العامة والخاصة، الدينية والدنيوية، الفردية والجماعية، الشريعية والتنفيذية.  بالتالي يرتقيا ليكونا المبدأ الكلي الذي يلي مسلمات الاعتقاد الديني، للإجابة عن السؤال الوجودي الكبير الذي بموجبه تتحدد وتتأطر أنماط عيش المسلمين (الشيعة) ووعيهم وتضامناتهم: كيف ينظم المسلمون (الشيعة على وجه الخصوص) أنفسهم؟ وما هي قواعد ومسلمات المشروعية السياسية؟ وكيف ينتظم الشيعة في الزمن الذي يغيب فيه الإمام غيبة غير معلومة الأمد والطبيعة؟ 

 


هنالك تباين بيِّن بين مفهومي ولاية الفقيه وولاية الأمة على نفسها، لا في طريق الاستدلال فحسب، بل في مفهوم الإمامة نفسه.  فالفهم الأول، أي ولاية الفقيه، يرى أن ولاية الإمام "المعصوم" مطلقة لغرض تدبير شؤون الدين وتفسير نصوصه وبيان أحكامه وتنظيم جميع شؤون الحياة الإنسانية في ابعادها السياسية والاجتماعية والفكرية. فـــ "كل ما يناط بالنبي فقد أناطه بالأئمة من بعدهم فهم المرجع في جميع الأمور والمشكلات والمعضلات وإليهم فوضت الحكومة وولاية الناس وسياستهم".  هو شمول ينبع من شمول حاكمية الله في جميع شؤون البشر الدينية والدنيوية، وتتجلى في "الحكومة الإسلامية" التي هي "حكومة القانون الإلهي والحاكم هو الله وحده".

 


إطلاق سلطة الإمام "المعصوم"، سوغت له نقل صلاحياته ومهامه إلى من ينوب عنه.  فسلطة الإمام ليست خاصية ماهوية أو جوهرية للإمامية يمتنع على الآخرين (غير الإمام "المعصوم") حيازتها أو ممارستها.  فولاية الإمام ليست سلطة ملازمة لشخصه وصفاته الذاتية التي لا تتوفر في أشخاص آخرين غيره، بقدر ما هي حق مطلق ووصاية مطلقة يمتلكهما الإمام على الدين وعلى عموم الناس معاً، تخوله صلاحية تفويض كامل سلطته المطلقة إلى الآخرين حتى لو لم يتمتعوا بالصفات والخصائص الذاتية المتوفرة في الإمام من عصمة وعلم لدني ونص عليه من الله أو النبي بإسمه وشخصه. 

 


بذلك، لا تعود ممارسة السلطة السياسية مقتصرة على شخص الإمام،  بقدر ما هي حق يحوزه الإمام ويملك صلاحية نقله إلى آخرين.  فولاية الإمام ليست مجرد ممارسة سلطة وفق قواعد مشروعية دينية، بل هي أصل وأساس أية مشروعية داخل المجتمع، دينية كانت أم سياسية.  والإمامة ليست سلطة تحتاج إلى شرعية، بل هي منبع الشرعية ومصدرها التي تقتضيها حاكمية الله وتحتاج إليها كل سلطة أمر لممارسة نفوذها ومهامها في المجتمع.       
هذا الفهم شكل الأرضية المسبقة التي تأسست عليها نظرية ولاية الفقيه المطلقة التي أطلقها السيد الخميني، سوغ من خلالها صحة ممارسة الفقيه لنفس سلطة الإمام المطلقة في زمان حضور الإمام وفي زمان غيبته معاً.  فلم تعد الشرعية السياسية من ملازمات شخص الإمام أو من متفرعات حكمه الموعود الذي "سيملأ به الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجورا". أي لم تعد العصمة من شروط مشروعية أي حكم سياسي، وهي الشرط الأساسي الذي أصر عليه الشيعة الإمامية الأوائل في مشروعية أي حكم سياسي بعد النبي.  إذ يكفي أن يكون الحكم بشرياً وغير معصوم بشرط استناده إلى تفويض أو تنصيب أو تعيين من الإمام دل عليه دليل شرعي أو نص ديني، من قرآن أو قول للنبي أو أحد الأئمة "المعصومين".  وهو ما عمد الخميني إلى تأسيسه من خلال اعتماد أدلة دينية تحمل بنظره مؤونة دلالية قوية تؤهل أشخاصاً غير معصومين استلام مقاليد السلطة والحكم وتدبير أمور الدين نفسه، سواء في تنفيذ أحكامه أو حتى في تعديلها واستحداث أحكام جديدة.

 


الشيء الثابت في مفهوم ولاية الفقيه هو أن السلطة شأن تعبدي وحقيقة شرعية وليست حقيقة عقلية أو تاريخية أو مجتمعية. فالسلطة السياسية بنظر الخميني أمر جعلي يجعله الشارع (الله) وحده، أي ينشؤه ويقرر طبيعته وحدوده. لذلك لا يختلف جعل (إنشاء وتشريع) ولاية الفقيه بنظر الخميني عن جعل وصاية القاصر.  فولاية الفقيه بحسب الخميني: "أمر اعتباري جعله الشرع كما يعتبر الشرع واحد منا قيماً على الصغار، فالقيم على شعب بأسره لا تختلف مهمته عن القيم على الصغار إلا من ناحية الكمية".

 


بل يرتقي الخميني بولاية الفقيه وفق منطق وسياق استدلالاته لتكون من ملازمات الاعتقاد الديني الذي يقوم على حاكمية الله المتمثلة بحاكمية النبي وحاكمية الأئمة المطلقتين، الذين "فوضت إليهم الحكومة وولاية الناس وسياستهم". فلا مجال وفق هذا الثابت للفصل: بين مجال ديني وبين مجال عام (Public Domain)، بين التكليف الديني أو الوظيفة الدينية الشرعية وبين النشاط السياسي، بين حق طبيعي تقتضيه الطبيعة الإنسانية وبين حق ينشؤه الدين ويعترف به.  فالأساس هو استمرار سلطة النبي بشموليتها الكاملة وكثافتها القداسوية عبر من يمثلونه ويحلون محله من الأئمة "المعصومين"، ثم بانتقالها من هؤلاء الأئمة بتفويض منهم في حال غيبتهم مكانياً أو زمانياً إلى الفقيه الجامع للشرائط، بحيث تكون "قيمومة النبي والإمام من الناحية العملية لا تختلف عن قيمومة أي فقيه عالم عادل في زمن الغيبة".  وهي قيمومة تؤهل فقهاء اليوم أن يكونوا بحسب الخميني: "الحجة على الناس كما كان الرسول حجة الله عليهم".

 


بهذا يصبح مبدأ ولاية الفقيه عمدة ونقطة ارتكار أي نشاط أو موقف سياسي.  فلا مكان للميل أو الرأي الشخصي، بل لا مكان للتنافس السياسي، أو لما يسمى بالرأي العام أو إجماع المسلمين أو حتى الشورى بينهم، بقدر ما تكون كل مسائل الحياة العامة ساحة تجسيد لحاكمية الله وترسيخ لمعتقد حاكمية الإمامة، ومنطقة ولاء (طاعة وانصياع) للتراتبية الهرمية التي يستلزمها مبدأ الولاية نفسه، بحيث يكون الخارج من مبدأ ولاية الفقيه خارجاً من مبدأ ومعتقد الإمامة نفسه. 

 


لهذا السبب وجدنا الخميني يرى أن ولاية الفقيه ليست مجرد تكليف شرعي فرعي يستنبط من أدلة شرعية مخصوصة من قرآن وسنة، بل هي مسألة بديهية "لا تحتاج إلى برهان، بمعنى أن من عرف الإسلام أحكاماً وعقائد يرى بداهتها". هذه البداهة بنظر الخميني مستمدة من حاكمية الله بضرورة تطبيق أحكامه وإقامة "النظام الإلهي" الذي يرتضيه، وتقوم على ملازمة عقلية وحتى شرعية بين ولاية الإمام "المعصوم" وولاية الفقيه، ترفع ولاية الفقيه من مستوى المسائل الفرعية المستنبطة بالدليل الشرعي الظني، إلى مستوى الاعتقاد الملازم لعقيدة الإمامة، إثباتا ونفياً، تكون فيها ولاية الفقيه عين الإمامة نفسها في زمن غيبة الإمام، مثلما تشير إليه رواية ابن حنظلة التي اعتمدها الخميني لإثبات ولاية الفقيه، بأن "الراد (الرافض والمعاند) عليهم (الفقهاء) راد علينا (الأئمة)، والراد علينا راد على الله". فالإيمان والتقيد بولاية الفقيه بحكم بداهتها العقلية والشرعية، وفق سياق ومنطق استدلال الخميني، هي بنفس درجة الإيمان والتقيد بمبدأ الإمامة نفسه.

 


طرح ولاية الفقيه، لا يختلف من حيث تأسيساته النظرية ومسلماته وبديهياته عن التأسيسات الأصولية التي اشتهرت بها التيارات الأصولية السنية، وفي مقدمها تنظيرات أبو الأعلى المودودي وسيد قطب، الذين أسسا أصل السلطة والحكم على مبدأ حاكمية الله حصراً ورفض اعتبارها شأناً بشرياً أو حقيقة اجتماعية أو ثمرة جهد وتفاعل إنساني.  مع فارق بين الطرفين: بأن الحاكمية تتجلى في المجال السني بتطبيق تفاصيل الشريعة الإسلامية من دون اشتراط جهة مخصوصة تقوم بالمهمة، وتتجلى في المجال الشيعي بالإمامة التي يجسدها الولي الفقيه في زماننا. ما يجعل الحاكمية في المجال الشيعي تقوم على مركزية سلطة شديدة تتمحور حول الولي الفقيه الذي يعود إليه (وفق اجتهاده الخاص) تدبير شؤون الدين والدنيا معاً.  الحاكمية السنية شريعة مسبقة تشرط أية سلطة سياسية، والحاكمية الشيعية سلطة فعلية مسبقة تشرط أي نشاط إنساني أو فعل سياسي.

أما مفهوم الإمامة ومقتضاها وفق مبنى ولاية الأمة على نفسها، فهذا ما سنناقشه في المقالة القادمة.