اعتبر الرئيس نجيب ميقاتي، أن شحنة المازوت الإيرانية التي أدخلها “حزب الله” عبر الحدود الشمالية، اعتداء على السيادة اللبنانية. اكتفى بالاستنكار من دون أي إجراء أو قرار يحد هذا الاعتداء أو يمنع تكراره. هذا هو وضع العلاقة بين الدولة، ككيان عاجز ضعيف ومنهار من جهة، و”حزب الله” الذي يضع قانونه الخاص ويخلق قواعده الذاتية، التي تعلو أية قاعدة أو قانون من جهة أخرى. كيان (الدولة) يكتفي بالتبرؤ المهذب، والصوت الخافت والمرتجف من فعل الاعتداء عليه، وكيان مواز (الحزب) يصور فعل اعتداءه فضيلة، ويصيره نبلاً إنسانياً، ويخلق منه أسطورة انتصار، وملحمة بطولة تضاهي ملاحم التاريخ الكبرى.

مع حمولات المازوت التي دخلت الأراضي اللبنانية عنوة وفي وضح النهار نكون أمام معادلة داخلية جديدة ذات تبعات إقليمية وآثار دولية

 

ما حصل بات سابقة معلنة وصريحة، بعدما كانت في السابق مضمرة ومبطنة، ترسخ تراتبية القوة في لبنان، تضع الحزب في رأس الهرم، وتجعل الدولة بكافة مؤسساتها وقواها تابعة وخاضعة، أو بالحد الأدنى متكيفة ومراعية لهذه التراتبية. هي وضعية باتت سمة وخاصية جديدة للواقع اللبناني برمته، ليس فقط على مستوى السلاح ومسألة الحرب والسلم، وإنما تشمل السياسة والقضاء والاقتصاد والتجارة، وحتى الثقافة والهوية.   

 

 

 يترك “حزب الله” المساحة الكاملة للطوائف تتصارع على حصصها وحقوقها المكتسبة، ويترك للقادة والسياسيين إثبات تفوقهم وصلابتهم، في معارك التأليف، وحيازة موارد الدولة، وجدل الصلاحيات وصراع تأويل النصوص الدستورية، لكنه ينتزع من الجميع، الحليف والخصم، الموالي والمؤيد، القريب والبعيد، برضاهم جميعاً وعدمه، صلاحية إعادة إنتاج حقيقة الكيان اللبناني كله، فتجده ينتج مصطلحاته الخاصة، لمعنى الدولة والسلطة والشرعية والمقاومة وحتى الهوية، ويفرضها معان ومفاهيم بديهية وثابتة، تقف وراء النقاش والبحث، لتكون اللوحة الخلفية والأرضية المرجعية، لأي فكرة أو تأويل أو موقف.  إنها استراتيجية الخروج من داخل مشهد التجاذب والتنافس، لا للوقوف على الحياد، بل لصناعة المشهد بأسره ووضع قواعده ورسم حدوده وتحديد ماهيته.

 

المعادلة الجديدة ليست معادلة سياسية بقدر ما هي معادلة إنتاج لبنان آخر يختلف بالكامل في حقيقته وقيمه عن الكيان الذي عرفه اللبنانيون 

 

 

  شحنة المازوت الإيرانية وما يتبعها من شحنات أخرى، لا قيمة بطولية لها، مهما حاول الحزب تصويرها فعلاً ملحمياً. فلا هي رسم لمعادلة دولية، بقدر ما هي استفادة واستغلال لظاهرة الإنكفاء الدولي والأمريكي، بل إن شبهة التوافق الأمريكي_الإيراني المسبق على هذه الشحنات ليست خفية، وليست كسراً لحصار مفروض على لبنان، بقدر ما هي الاستفادة من الفراغ الداخلي، لجعل لبنان مدى حيوي للبضائع الإيرانية، وليست حلاً لأية أزمة محروقات، بقدر ما هي مسعى جدي للدخول كمستثمر في سوق المحروقات، التي تدر أموالاً طائلة للحزب، وليست إسهاماً ولو بسيطاً في تحسين اقتصاد البلد المنهار، بقدر ما هي خلق حقل نشاط اقتصادي، وشبكة مصالح مالية لا سبيل للدولة في ضبطه، أو التحكم به أو حتى الاستفادة منه.

 

ميقاتي وصف شحنة المازوت الإيرانية بإعتداء على السيادة اللبنانية واكتفى بالاستنكار من دون أي إجراء أو قرار يحد هذا الاعتداء أو يمنع تكراره

 

نحن أمام مشهد استثمار الحزب للأزمة الحالية، في خلق اقتصاد مواز لاقتصاد الدولة، مثلما نجح في خلق أمن موازٍ، وسيادة موازية له، بل ودويلة موازية أيضاً.

 

 

باتت الأزمات الاقتصادية والسياسية وحتى الأمنية في لبنان، بمثابة الفرص الذهبية للحزب، في إطلاق مبادرات وحملات يقلص بها سلطة الدولة، ويخلق مساحات نفوذ جديدة له، يحقق بها انتشاره، ويبسط سيطرته على قطاعات جديدة ونشاطات عامة إضافية، يفترض بها أن تكون مهاماً حصرية للدولة.

 

مع حمولات المازوت، التي دخلت الأراضي اللبنانية عنوة وفي وضح النهار، نكون أمام معادلة داخلية جديدة، ذات تبعات إقليمية وآثار دولية. لا أقول أنها معادلة خلخلة لموازين القوى في لبنان، فهذا أمر تكفَّل به احتلال الحزب لبيروت، وترجمه اتفاق الدوحة عرفاً راسخاً معمولاً به، ولا هي معادلة إضعاف الدولة أو الدخول في طور اللادولة، فهذا أمر تكفلت به حملات الحزب “المقدسة” في سوريا واليمن والعراق.  فالمعادلة الجديدة ليست معادلة سياسية، بقدر ما هي معادلة إنتاج لبنان آخر، يختلف بالكامل في حقيقته وقيمه، عن الكيان الذي عرفه اللبنانيون.