انتهت المواجهة بين حماس وإسرائيل من دون تغير فعلي في المعادلة السياسية وبقاء كل شيء على ما هو عليه. فلا إسرائيل استطاعت القضاء على حماس رغم التدمير الهائل لمواقعها والخسارة البشرية الكبيرة في صفوها، ولا حماس استطاعت تغيير حالة الاحتلال في القدس أو إيقاف ممارسات التهجير لسكانها الأصليين أو حتى انتزاع إدانة دولية لإسرائيل بممارساتها العنصرية. ما يعني أن كل طرف ربح فقط بالنقاط على الآخر، وضخم إنجازه إعلامياً ليصوره انتصاراً أمام جمهوره وشعبه ليغطي العجز الفعلي لكلي الطرفين على تغيير واقع الصراع أو خلق معادلة جديدة لصالحه. 

 


معيار الإنتصار عند كل طرف مختلف بالكامل عن معيار الآخر. فالإسرائيلي يعتمد قدرته التدميرية وتفوقه التقني اللافت، ليشل الطرف الآخر، لا في قدراته العسكرية فحسب وإنما لتدمير بيئته السكانية وبنيته التحتية.  هو فعل سيشغل حماس سنين طويلة في إعادة إعمار غزة وإعادة تأهيل قدرتها العسكرية، ويمنح إسرائيل سنين طويلة من الهدوء والأمن لسكانها ومستوطنيها.  أي إن لعبة إسرائيل كدولة هو كسب الوقت، واستبدال البحث في الحل الجذري للقضية الفلسطينية الذي يتطلب تنازلات إسرائلية جسيمة، بهدنة طويلة الأمد.

 


أما معيار الانتصار عند حماس فهو إظهار قدرات عسكرية نوعية، غير متكافئة مع القدرة الإسرائيلية، لكنها قادرة على تهديد أمن المدن الإسرائيلية، وإثبات العجز الإسرائيلي على إسكات السلاح الفلسطيني بصفته أداة ضرورية في استراتيجية المواجهة ضد إسرائيل، إضافة إلى بث تعبئة فلسطينية داخلية، وتحريك المشهد الفلسطيني عربياً وإسلامياً ودولياً.  هو انتصار مؤقت وآني، ينتهي لحظة إعلان وقف إطلاق النار.

 


تباين معياري الإنتصار، بين إسرائيل وحماس، يعني غياب الإنجاز السياسي لكلا الطرفين. إذ تبين فشل رهان إسرائيل على أن طول الزمن كفيل بنسيان وتبديد القضية الفلسطينية، وعلى أن آلة التدمير قادرة على إسكات الصوت الفلسطيني الذي يزداد شراسة وقوة وتماسكاً،  وعلى أن القضم البطيء للأرضي يكفل لها تحويل القضية الفلسطينية من قضية أرض محتلة إلى قضية شعب مشرد ولاجيء. كما أنها فشلت في ضمان أمنها والاعتراف الدولي الكامل بشرعيتها خارج حل الدولتين.

 


أما حماس فيكاد إنجازها محصوراً بها. إذ إن التحريك الموسمي للمواجهة العسكرية ضد إسرائيل الذي ينتهي عادة بهدنة طويلة الأمد يجعله إنجازاً خالياً من أي مضمون سياسي، لأنه يفشل في انتزاع أي التزام إسرائيلي في وقف استيطانها وتهويدها لكثير من الأراضي الفلسطينية، أو إيقاف ممارستها العدوانية ضد سكان الضفة الغربية والقدس. ما تحصده حماس هو: تعويم لها ولقياداتها التي تعود إلى الظهور لتتصدر المشهد الإعلامي عربيا ودولياً، وتأكيد على أولوية وتفوق النضال المسلح بنسخته الجهادية بل حصريته على جميع أوجه النضال والمواجهة الأخرى.  وانتزاع زمام المبادرة من قيادة محمود عباس وباقي الفصائل الأخرى التي آثرت الخيار السياسي على الخيار المسلح. 

 

 

 


بدت المواجهة الأخيرة حاجة لكل من نتانياهو وقيادة حماس في تغليب أجندتهما الخاصة داخل مجالهما الشعبي والوطني. فنتانياهو، إلى جانب مشاكله القانونية الشخصية، ينتمي إلى جبهة أيديولوجية ترفض الاعتراف بشعب فلسطيني، وتعمم القناعة بأن آلة التدمير والردع الوحشيين هما الوسيلة الوحيدة والحصرية لبقاء إسرائيل وضمان أمنها وتفتيت وتبديد الحق الفلسطيني.  أما حماس فتعمد إلى أسلمة القضية الفلسطينية وحتى أسلمة الهوية الفلسطينية وفق تأويل أيديولوجي (إخواني) خاص، وتأكيد جدوى الجهاد المسلح بل مدخليته الحصرية في تحرير فلسطين مهما كانت الأثمان البشرية والعمرانية باهظة الثمن، وإثبات مقترح توازن رعب وهمي: خوف المواطن الإسرائيلي مقابل الموت والتشريد والدمار الكاسح في الطرف الفلسطيني.

 


هذا يعني أن خلف مشهد المواجهة الأخيرة، هنالك اصطفافات سياسية داخلية ومسعى لحسم الجدل والخيارات داخل كل طرف: الإسرائيلي والفلسطيني.  بحيث تكون الإنتصارات المزعومة متحققة داخل بيئة ومجال كل طرف.  أي إن جني الثمار والمكاسب السياسيتين لم تحصل من أي من الطرفين، الفلسطيني والإسرائيلي، على حساب الآخر، بل حصلت داخل ساحة ومجال كل طرف، بمعنى انتصار إسرائيلي على إسرائيلي آخر، وفلسطيني على فلسطيني آخر.

 


فالقسوة بل الوحشية الإسرائلية أثبتت جدواها في تعزيز مواقع اليمين الإسرائيلي الذي ما يزال يحصد أكثر أصوات الناخب الإسرائيلي، وفي استقطاب قوى المسيحية الصهيونية في الولايات المتحدة الأميريكية وفي تأمين الدعم المطلق من أكثر الجمهوريين والديمقراطيين الأمريكيين، مع تردد واضح من المعتدلين السياسيين الأمريكيين في المطالبة أو السعي لتحسين شروط الحياة الفلسطينية.  

 


 أما حماس فباتت القوة الأكثر تماسكاً وصلابة أمام ترهل السلطة الفلسطينية وسمعة الفساد العالية داخل صفوفها، وباتت بخطابها التعبوي وتضحياتها ضامنة لحصد أكثر الأصوات الفلسطينية في أية انتخابات قادمة، ما يمكنها من الإمساك بملفات القضية الفلسطينية وفي مقدمها القدس، وتكون المرجعية الأولى دولياً لأية جولة تفاوض أو مقترحات حل قادمتين.

 


مع  التعويم الإعلامي والدعم الشعبي والظهور الدولي لحماس، ستخرج القضية الفلسطينية من الحضن الرسمي العربي، الذي آثر فك الاشتباك مبكراً  مع إسرائيل والدخول في صفقات تطبيع مجانية معها، بعدما تغيرت لديه الأولويات الاستراتيجية، تاركاً ورائه فراغات وفجوات في مسار المسألة الفسلطينية. هي فراغات ستبادر إلى ملئها قوى دولية مجاورة، وفي مقدمها تركيا وإيران، مع أرجحية حضور إيراني أقوى، بحكم التحالف العميق والبنيوي بين حماس وإيران، وبحكم النفوذ والتمدد الذي حققته داخل المجال العربي وعلى الحدود مع إسرائيل، بخاصة، سوريا ولبنان.

 


الذي تغير في مشهد المواجهة الأخير، ليس تحولاً في معادلة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، أو ظهور معطيات قوة عند أي من طرفي الصراع تضمن نهاية ومآل حاسم لصالحه، بقدر من هو حسم الخيارات داخل كل طرف: عقيدة التدمير الشامل مقابل عقيدة الجهاد والشهادة، وظهور قوى جديدة، محلية وإقليمية، ستكون المرجعية القادمة للقضية الفلسطينية.

 


 مع المشهد الأخير، بتنا نشهد خروجا وانسحاباً تدريجياً للعرب من القضية الفلسطينية، وتسرباً هادئاً وتمدداً ثابتاً للنفوذ الإيراني داخل المجال الفلسطيني، من دون أن يعني ذلك أي تغيير في مستقرات الواقع القائم أو حتى لعبة الصراع وتوازناتها القائمة.  الذي تغير هم اللاعبون، أما اللعبة فما تزال تحتفظ بكامل أصولها وقواعدها وثوابتها.