وصلت نرجسية حزب الله إلى حد، أنه لا يُصدِّق أن يكون هنالك اعتراض على ادائه أو رفض لسلاحه.  فرصيد مقاومته للاحتلال وسخائه في تقديم الشهداء، شكل بنظره مديونية أبدية له ، بحق أفراد المجتمع والوطن، وارتقى به إلى مصاف العصمة والطهر الذاتي، اللذان يجعلانه فوق النقد والمساءلة.  بل يكون النقد والمساءلة بنظر حزب الله، بمثابة تهمة وعلامة زيغ وخبث في باطن كل معترض، تجعل المناعة الوطنية لكل رافض له ضعيفة، وقابليته للعمالة، الفعلية والافتراضية، عالية ومؤكدة.  إنه حزب “أنا على حق دائماً”.
 
 
بذلك وبدلا من بحث حيثيات الاعتراض ومنطقها، تراه يحاكم النوايا المبيتة، ويفضح مخطط التآمر، وقوى الشر التي تقف ورائها. وبدلاً من تبصر دلالات الرسائل الاجتماعية المتراكمة، تراه ينعتها بعمى البصيرة والجهل وحتى الضلال. وبدلاً من رصد التحولات والمتغيرات، التي تستدعي تكيفاً معها، وتعديلاً في بنيته وأيديولوجيته وخطابه، يعمد إلى عزل نفسه عن هذه المتغيرات، ويصور نفسه حقيقة أزلية، تسمو على تحولات التاريخ، ولا تتلوث بلوثة المتغيرات. 
 
 
بعبارة أخرى، يرفض حزب الله، وفق خطابه المعلن وممارسته الظاهرة، أن نتعامل معه كجهة أرضية لها محدوديتها، أو جماعة بشرية لها عثراتها، أو قوة سياسية تناظر وتماثل القوى السياسية الأخرى، التي يتحالف معها حيناً وينافسها ويصارعها حيناً آخر.  بل يرفض أن يرى في المجتمع بمكوناته المتعددة، مصدراً لشرعية عمله ونشاطه، فالشرعية بالنسبة إليه شأن إلهي ومنحة ربانية، اكتسبها ونالها دون الآخرين من البشر، ما يجعله أرفع من أن يطالب، وأعلى من ينقد أو يحد أو يقيد، ويملك حق تنصيب نفسه بنفسه، مهما كان موقف ورأي الآخرين. 
 
يرفض حزب الله وفق خطابه المعلن وممارسته الظاهرة أن نتعامل معه كجهة أرضية لها محدوديتها، أو جماعة بشرية لها عثراتها
 
النرجسية على المستوى الفردي مرض نفسي، أما حين تصاب بها القوى السياسية، التي يتعاظم لدى أفرادها عقيدة الاصطفاء، وتصاب قيادتها بيقين الدور الإلهي، والمهمة التاريخية الموكلة إليها، فإنها تتخذ مظهر عزلة خانقة، يفقد معها المصابين بها طاقة التواصل العقلاني، أو خُلُق التواضع، أو جُرأة التنازل، أو حتى شجاعة الاعتراف بالخطأ، لتصبح هذه القوى أسيرة صورة متخيلة تبنيها لنفسها، تزداد تضخماً كلما تستحضرها، وتسامياً ونقاءً وطهراً كلما تمثلتها وتغنت بها. 
 
إنها نرجسية تتحول عشقاً للذات وهياماً بها، ورغبة عدمية لا تعود قادرة على النظر من حولها، ولا تطيق رؤية أحد بجانبها أو معها يخالفها، وتضمر الحقد والكره لكل من ترى فيه تفوقاً أو تميزاً، أو حتى استقلالاً واختلافاً عنها، تتمنى لو أنها تكون سيدة على من في العالم، أو يكون العالم لها وحدها دون الناس.     النرجسية حين تصاب بها القوى السياسية فإنها تتخذ مظهر عزلة خانقة يفقد معها المصابين بها طاقة التواصل العقلاني “يكرهوننا لأنهم خبثاء، ويعترضون علينا للحسد والغل الذي يملأ صدورهم نحونا،  ويرفضوننا لأنهم متآمرون وآثمون، أو في أحسن الأحوال هم جهلة وسذج، عميت بصائرهم ولا يدرون ما يفعلون.. ولأنهم كذلك، فهم أعداء الحق، لا يستحقوا عناية الرد أو منحهم فضيلة الاستماع إليهم وشرف الحوار معهم، والحل يكون إما بتجاهلهم، أو عزلهم، أو تأديبهم، أو عقابهم، وفي حالات الحشرة سحقهم وإبادتهم”.   
 
 يكرهوننا لأنهم خبثاء،ويعترضون علينا للحسد والغل الذي يملأ صدورهم نحونا
 
هذا هو منطق خطاب وسلوك حزب الله، في التعامل مع كل الإشارات والأحداث والرسائل المكثفة في لبنان، والتي أخذت تشتد وتقوى وتتضخم في السنتين الأخيرتين، في رفضها ليس لشرعية سلاح حزب الله فحسب، بل لأصل وجود هذا السلاح، والاستعمال الخاطىء جداً لهذا السلاح، الذي وعلى العكس من ادعاء حزب الله، بأنه مصدر أمن وأمان من العدو المحتل أو المعتدي، بات يوحي للكثيرين بأنه مصدر قلق وخوف، وسيف مسلط على رقاب الغالبية العظمى من الشعب اللبناني.
 
هذا هو منطق خطاب وسلوك حزب الله في التعامل مع كل الإشارات والأحداث والرسائل المكثفة في لبنان
 
أدرج حزب الله الرسائل الأخيرة التي أفرزتها حادثتي خلدة وحاصبيا، في خانة الفعل الإجرامي الذي يستحق العقاب القانوني. قد يكون محقاً في توصيف السلوك الفردي للحادثتين، لكنه تجاهل الدلالة الاجتماعية الخطيرة لهما، التي تشي بتنامي الرفض المجتمعي لهذا السلاح، داخل مكونين أساسيين في المجتمع اللبناني: السني والدرزي.
 
 
الرسالة الأخيرة الأقوى كانت التي أطلقها بطريرك الموارنة. هي ليست رسالة فردية أو شخصية، بل رسالة صدرت عن مؤسسة تاريخية، ذات دور تأسيسي لقيام لبنان واستمراره، وهي أيضاً رسالة مسيحية شاملة لم يعد بالإمكان التنكر لها، عرف البطريرك كيف يحولها إلى مطلب دستوري وسيادي، بأن وضع السلاح مقابل السيادة، وجعل فعل التفرد في إدارة الجبهة الجنوبية، عملاً خارجاً على القانون والشرعية. 
 
 
هي أيضاً رسالة مقلقة ومقوضة لكل ادعاءات حزب الله، ومبطلة للحق والتعيين الذاتي التي منحه لنفسه، بوصايته الحصرية على ملف الحرب والسلم في لبنان رغم أنف اللبنانيين. هو حق يشبه حجة ملوك أوروبا في القرون الوسطى، بالتنصيب والحق الإلهيين في الحكم والسلطة، مع قطع النظر عن رغبة الرعية أو إرادة أفرادها. 
 
 
 الرسالة الأخيرة الأقوى كانت التي أطلقها بطريرك الموارنة
 
بدلاً من التقاط الإشارات العميقة لحادثتي خلدة وحاصبيا، والعمل على تبصر المنزلقات الخطيرة، التي وصل إليها في سلوكه الأمني وأدائه السياسي، وبدلاً من التعامل مع موقف البطريرك بجدية بالغة، إذا بنرجسية حزب الله التي تتحكم في خطابه وسلوكه، تدفعه إلى نعت المعترضين بالمبغضين الحاقدين، والبطريرك بالعمالة والتآمر الموجبين للإعدام المعنوي والسياسي.
 
 
 
لم يعد بامكان حزب الله، تجاهل هذا الكم الفائض من الرافضين لسلاحه، وإذا كانت الطائفة الشيعية ملاذه وحصنه الأخير، فإن سلاحه لا يعود سلاح مقاومة، بل سلاح مذهب يتقوى به على المذاهب الاخرى، وسلاح غلبة فاقد صفته الوطنية، وفاقداً شرعيته الاجتماعية الشاملة، التي هي مصدر شرعيته السياسية والقانونية.   لم يعد بامكان حزب الله تجاهل هذا الكم الفائض من الرافضين لسلاحه حين أعلن أمين عام حزب الله منذ خمسة عشر عاماً، بأن “المقاومة” (سلاح حزب الله) لا تحتاج إلى إجماع وطني وشعبي، بل هي تملك قوة ذاتية في فرض نفسها، كان هذا بمثابة إعلان بأن خيار الغلبة عند حزب الله، أصبح بديلاً عن خيار الإجماع اللبناني والمشروعية الشعبية.