صحيح أن ما حصل في طرابلس يستحق التوقف، ولكن طبعًا ليس على طريقة ذلك الحاج الضائع
 

ما إن أعلن عن موعد أستقبال محمد مهدي شريعة مدار، المستشار الثقافي في سفارة الجمهورية الإسلامية الايرانية في بيروت، واستضافته لإلقاء محاضرة في الصالون الادبي للسيدة "فضيلة فتال" بمدينة طرابلس عاصمة الشمال، حتى ثارت ثائرة الكثير من الفاعليات الفكرية والدينية والإجتماعية والأكاديمية وحتى الحزبية في المدينة رفضًا واستنكارًا للموضوع. 

ووصل الحد إلى التلويح بالدعوة لتجمعات والتظاهر أمام منزل السيدة فتال للحؤول دون استقبال الضيف المدعو ومنعه حتى من الوصول إلى مكان الدعوة! مما اضطر القيمين عليها إلى الغائها أو تأجيلها إلى حين. 

أوافق تمامًا مع الصديق الصحافي والباحث قاسم قصير بالدعوة إلى وقفة تأمل ونقاش هادئ حول الحادثة، وان كانت دعوة الصديق قصير مبتورة، لأنه عمد إلى رفق دعوته الصادقة، بأسئلة مفخخة، أو على الاقل غير موضوعية يقول: "هل هكذا نقدم طرابلس على أنها عاصمة للتنوع والسلام، وهل مناقشة المشهد الثاقفي الإيراني ممنوعة ولماذا لا يتم استقبال من نختلف معه لنحاوره بدل التحريض عليه". 

إقرأ أيضًا: ماذا بعد ضرب ناقلات النفط؟؟؟

هذه الأسئلة المشروعة كانت لتكون مطلوبة ومهمة لو أنها أرفقت بسؤال أكثر أهمية ومطلوبية، بحيث لا يكون موجهًا إلى طرف واحد ورمي مسؤولية ما حصل على جانب واحد (طرابلس) بدون حتى الإلتفات والإشارة إلى الجانب الآخر (ايران)، فالسؤال البديهي المفترض هنا أيضًا هو: لماذا صارت إيران ومستشارها وثقافتها ممقوته ومكروهة ومرفوضة في مدينة العلم والعلماء؟! 

ولا بد في هذا السياق من التذكير بالتاريخ القريب لهذه المدينة العريقة، التي ساهم أبناؤها بقتال العدو الإسرائيلي في جنوب لبنان وقدمت العديد من الشهداء في هذا المسار، وان كنا ننسى فلا يجب أن ننسى تفاعل هذه المدينة يوم التحرير وكيف أنها رقصت فرحًا مع معظم المدن اللبنانية وكيف ان أعلام حزب الله (الممثل الشرعي لإيران في لبنان) عمت شوارع طرابلس وبيوتها ورفعت أعلام الحزب في ذلك "اليوم المجيد" فوق مواكب السيارات التي جابت ساحات وأزقة طرابلس بشكل عفوي، لا يدلل الا على رحابة صدر هذه المدينة وأهلها وقفزها فوق كل الفروقات الحزبية والمذهبية التي لم تكن موجودة في اذهانهم أصلًا!

إقرأ أيضًا: الحريري الضعيف، والتسوية البتراء

الإدارات الأميركية المتعاقبة تحمل كلها سؤال مشترك، وتدّعي البحث عن الإجابة عنه: لماذا يكرهنا العرب؟ – أو لماذا الناس تكره أميركا؟ 

وان كانت هذه العجالة لا تتسع لتعديد أسباب هذا التحول في المزاج الطرابلسي، الّا أن من بديهيات القول أن التجربة الإيرانية وسلوكها على امتداد الجغرافيا العربية من سوريا مرورًا بالعراق واليمن والبحرين والسعودية ووصولًا إلى طرابلس، لم تستطيع إيران من تقديم نموذج راق عن الكثير من الشعارات التي كانت تحملها وفي مقدمها (الوحدة الاسلامية، التي صرفت على مؤتمراتها ملايين الدولارات)، فبالجانب الثقافي والفكري لم نر الا المزيد من التفسخ المذهبي وتعميق الهوة بين السنّة والشيعة، وبالجانب السياسي فإن الشارع السني المحبط في العراق ولبنان لا يرى سببًا يقف خلف احباطة الّا هذا الاستقواء "الشيعي" لاتباع إيران بالمنطقة، وأينما حل السلاح الإيراني حل معه الاضطهاد والاستعلاء على أهل السنّة وبهذا المعنى فطرابلس لا تختلف عن محافظة ديالى والأنبار وصلاح الدين، وحتى عن بيروت أو حلب أو صنعاء... 

قيل أن حاجًا كان في ركاب حملة من عشرات الحجاج، فضاع عنهم لفترة ساعات طويلة، وبعد مدة عثروا عليه فما كان منه الّا أن وقف على مرتفع وتوجه إلى "الحملة" متوجهًا بسؤاله اليهم باستغراب: أين كنتم ولماذا تهتم عني؟؟! 

صحيح أن ما حصل في طرابلس يستحق التوقف، ولكن طبعًا ليس على طريقة ذلك الحاج الضائع.