الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على جميع الأنبياء والمرسلين لاسيما المبعوث رحمة للعالمين محمد بن عبد الله وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه الأخيار المنتجبين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
 
وبعد فإنه لا يخفى على باحث المدى الذي بلغه المسلمون بفعل استجابتهم لنداء الإسلام فقد أصبح العرب والمسلمون أمةً واحدة جمعها الانتماء العقائدي الواحد إلى الرسالة التي ختمت بها الرسالات السماوية ، وقد تجسدت وحدتهم وأخوتهم في النفوس وانعكست سلوكاً حياتياً لهم وأصبحت الوحدة والأخوة من الخطوط العريضة التي شكلت لهم قاعدة انطلاق في شتى المجالات والميادين وركيزة من الركائز التي قام عليها فهمهم لأبعاد الرسالة وأهداف الشريعة السمحاء فكل حكم وكل دعوة لا تلتقي مع الوحدة والأخوة كانت مرفوضة لأنها تخالف مرجعية الانطلاق ومناخ الرسالة العام.
 
وقد تبدل النزاع بالوفاق والاجتماع ،وتحولت العداوة والشحناء إلى المودة والإخاء وانتقلوا من الأفق الضيق إلى الآفاق الرحبة والواسعة من التفكير الذي كان يقتصر على الفرد وينحصر بالقبيلة على أبعد الحدود إلى التفكير بحياة الأمة وقضايا الجماعة وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا التحول بقول الله تعالى:
 ( لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم ) الأنفال-63-.
وقد كانت هذه النعمة جليلة القدر عظيمة الأثر في تلك الجماعات التي لم تعرف قبل الإسلام معنى الوحدة في إطارها الشامل إلا من خلال الدعوة الجديدة ، وقد أراد الله تعالى منهم أن يبقوا على ذكر من هذه النعمة لتبقى حاضرةً في أذهانهم ماثلة أمام أعينهم يرجعون إليها أساساً لقوتهم ودعامة لاستمرار مسيرتهم كما في قوله تعالى:
 (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءاً فألف بين قلوبكم وأصبحتم بنعمته إخوانا)آل عمران-103-،
 وقد أصبحوا بفضل هذه النعمة أصحاب قضية كبرى وغدوا أصحاب رسالة عظمى يتحملون أعباءها ويبذلون الأنفس والأموال في سبيلها متآزرين متعاضدين فكانوا:
( خير أمة أخرجت للناس ) كما جاء في القرآن الذي وصفهم أيضاً بأنهم الرحماء بينهم والأشداء على الكفار يبتغون من الله فضلاً ورضواناً.
 
 
سر التحول
هذه الصورة الرائعة التي أصبحت سمة لتلك الجماعات بعدما كانت متصارعة تعيش الحياة القبلية تستدعي هذه الصورة التساؤل عن سر هذا التحول وعن العوامل التي أدت إلى هذه النتيجة التي تشبه السحر.
 
لا شك أن الجماعات المختلفة والمتفرقة تحدث لها الوحدة عندما تكون لها القضية الواحدة وعندما تتهيأ لها القيادة الرائدة التي تشكل لها القدوة وتحدث لها الوعي والإيمان من خلال الالتزام بأعلى الموازين وأدقها والتحلي بالقيم حينئذ يحدث الانقلاب في حياة الأمم والشعوب فكيف إذا كان الكتاب هو القرآن الكريم الذي عبر عن القضية اللازمة ببيان ما بعده بيان وكيف إذا كانت القدوة قد تمثلت بالنبي محمد(ص)الذي ضرب أروع الأمثلة في الإخلاص والتضحية والثبات على المبدأ وليس بعد ثناء الله عليه من ثناء: (وإنك لعلى خلق عظيم)
 و في قوله تعالى:
 ( واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم  في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان ) الحجرات-7-
 لقد استجاب العرب والمسلمون لنداء الحياة هذا فكانت لهم الحياة الجديدة وكان لهم الوجود الفعال والمؤثر على صعيد المنطقة والعالم.
 
دور القرآن
 
وقد أدرك المسلمون أن القرآن الكريم بما اشتمل عليه من أحكام وتشريعات وتوجيهات وعظات لا ينتهي دوره في بناء الأمة وصناعة غدها المشرق بانتهاء حياة النبي (ص) عرفوا ذلك من النبي ومن القرآن نفسه كما جاء في قوله تعالى:
 ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين ) آل عمران –144-
وأدركوا أيضاً من خلال قوله تعالى:
 ( وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) فصلت-42- أن القرآن باق مصدر عطاء لا ينضب وأنه الكتاب المعصوم عن الخطأ فهو مصدر للعلم والمعرفة ومرجع في معرفة الحق والباطل وتمييز الخطأ من الصواب وقد ورد عن الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة:
 ( ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق ولكن أخبركم عنه ألا أن فيه علم ما يأتي والحديث عن الماضي ودواء دائكم ونظم ما بينكم ) ,وانه ( حبل ممدود بين السماء والأرض لا تفنى غرائبه ولا تنقضي عجائبه) وأنه (يجري فينا كما يجري الليل والنهار).
 
وقد جرت سيرة السلف الصالح من المسلمين بعد رسول الله (ص) على اعتماد القرآن مصدراً للتشريع ومرجعاً لمعرفة الأحكام وفصل الخصومات وكانوا عندما يختلفون في حكم من الأحكام وفي قضية من القضايا يقول بعضهم للبعض الآخر هل عندك على ما تقول من كتاب الله آية أو من سنة نبيه رواية ؟ وعند الإطلاع على أحد الأمرين يحسم النزاع وتنهي الخلاف وكانوا بذلك يجسدون حقيقة إيمانهم بحاكمية القرآن ورسوله من خلال قوله تعالى:
 ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم …) النساء-65-وقوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله  واليوم الآخر…) النساء-59-
 لقد فهموا من الشرط في الآية أن الإيمان يكون بالرجوع إلى الله ورسوله والرجوع إلى الله هو الأخذ بكتابه والرجوع إلى رسوله هو الأخذ بسنته الجامعة ، وقد أكدت هذا المعنى الكثير من الأحاديث مثل الحديث القائل:
 ( إذا التبست عليكم الفتن كغياهب الليل المدلهم فعليكم بالقرآن)
 والحديث القائل ( القرآن هو الحكم بين المسلمين إذا اختلفوا والدليل لهم إذا ضلوا) .
هذه المرجعية وهذه الحاكمية للقرآن مع تلك السيرة الصالحة من السلف الصالح على الرجوع إليه في فض النزاعات وفصل الخصومات هو الذي حصن الأمة من عوامل التمزق والإنقسام وهو الذي كان يذكرهم بآياته المدوية بأنهم إخوان في دين الله وبهذا النهج والسلوك كانت تحل عقد الإختلاف وتترسخ روابط المحبة والإئتلاف فالقرآن عندهم في موضع القداسة لا يختلفون في الحق الذي يظهره ولا في الباطل الذي ينكره.
 
الـدين تــام
   
لم ينتقل النبي الكريم إلى الرفيق الأعلى إلا بعد أن أدى الأمانة وبلغ الرسالة كاملة غير منقوصة وقد أعلن القرآن الكريم عن هذه الحقيقة كما جاء في قوله تعالى:
 ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) المائدة-5-.
 وقد جاء في الأحاديث الكثيرة أن الشريعة إكتملت وانها شاملة لكل الحوادث والوقائع نظير ما ورد:
( كل شيء فيه كتاب أو سنة) أو( ما من شيء إلا وفيه كتاب أو سنة حتى الأرش في الخدش)ومنها ما ورد ( إن الله تبارك وتعالى لم يدع شيئاً تحتاج أليه الأمة إلا أنزله في كتابه وبينه لنبيه ) وفي بعضها( إن الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كل شيء حتى والله ما ترك شيئاً يحتاج أليه العباد) ومنها ( كل شيء مردود إلى الكتاب والسنه) .
 وقد جاء في حجة الوداع عن النبي (ص):
 ( أنه ما من شيء يقربكم من الجنة إلا وأمرتكم به وما من شيء يبعدكم عن النار إلا ونهيتكم عنه).
 وعلى كل حال فإن تمامية الدين ثابتة بالكتاب والسنة وهي ليست موضعاً للخلاف بين المسلمين.
 
ومن خلال هذا الأصل المسلم والمتفق عليه بين المسلمين نعرف أن الصحابة والمجتهدين والتابعين وتابعي التابعين لم يكونوا من المشرعين بل كانوا يحاولون بإجتهادهم الوصول إلى أحكام الله تعالى الثابتة والتي أداها الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام وكلما ابتعدنا عن عصر الرسالة كلما أصبحنا بحاجة إلى الإجتهاد من أجل معرفة الأحكام الشرعية من خلال تحديد وسائل الإثبات وكيفية الإعتماد عليها.
 
*
مذهب الصحابة والخلفاء الراشدين
لقد كان اعتماد الصحابة ومنهم الخلفاء الراشدون على الكتاب والسنة وقد كانوا يختلفون وإلى بعضهم البعض يرجعون وكانت الآراء تتعدد فيما بينهم فيؤخذ بالأقرب إلى الكتاب والسنة ولم يصل هذا التعدد في الآراء درجة المذاهب بل بقيت تلك المرحلة وما بعدها خالية من المذاهب فلم يكن لهم من دين سوى الإسلام ولم يكن لهم من مذهب سوى الإسلام فلم يكن مذهب علي ابن أبي طالب جعفرياً وشيعياً ولم يكن مذهب عمر بن الخطاب سنياً كما لم يكن الخليفة أبو بكر مالكياً ولا السيدة عائشة أم المؤمنين حنفية أو حنبلية وهكذا فلم يكن لسائر الصحابة والخلفاء من مذهب سوى الإسلام وفقط بدون أي قيد آخر وقد كان الجواب عند السؤال من الشخص عن دينه أنه الإسلام وأنه مسلم لا غير بدون أي قيد من القيود المذهبية
 
*
ولادة المذاهب متأخرة
 
وعلى هذا النهج الذي ذكرناه سار الصحابة والتابعون وتابعوهم وعاش المسلمون في ظل هذه الأجواء زهاء ثلاثة قرون عندما اكتملت المذاهب بعد وفاة الإمام أحمد بن حنبل في سنة(241) هجرية وقد حصل هذا الإكتمال للمذاهب تباعاً وقد كان أولها مذهب الإمام أبي حنيفة ثم مذهب الإمام مالك ثم مذهب الإمام الشافعي وبعده مذهب الإمام ابن حنبل وقد كان كل إمام لاحق لا يرى لزوم اعتماد مذهب الإمام السابق عليه وإلا لما خرج عن إطاره بتأسيس مذهب آخر وعلى كل حال فإن الولادة المتأخرة للمذاهب هي موضع وفاق بما في ذلك مذهب الإمام جعفر الصادق بالمعنى المذهبي ولا شك أن الذي كان موجوداً قبل هذه المذاهب هو الإسلام بدون مذاهب وهذا ما نريد أن نرجع أليه ونعتمد عليه.
ومن هنا فإننا نقول إن المذاهب ليست قدراً لا يمكن تجاوزه ، إنها مناهج في الإستدلال وطرق في الإستنباط والوصول إلى حكم الله تعالى في الوقائع والأحداث وقد كان الإسلام وكان المسلمون وكانت الآراء متعددة ولم يكن هناك مذاهب وما كان حاصلاً في الماضي يمكن أن يحصل في الحاضر والمستقبل .وهل كان للأئمة الأربعة أو الخمسة أو الأكثر قبل اعتماد مذاهبهم وانتشارها مذهباً غير الإسلام ؟!
 
 
 
*
إختلاف المناهج
 
عندما تكون الشريعة التي يجب التعبد بأحكامها واحدة ومع ذلك يقع الإختلاف في النتائج التي يتم التوصل أليها من قبل الفقهاء والمجتهدين فإن هذا الإختلاف يعني اختلافاً في المنهج المعتمد لتحديد وسائل الإثبات وسبل الوصول إلى الأحكام واختلافاً في طرق الإستدلال وليس اختلافاً في الأهداف الواحدة التي يسعى الجميع للوصول أليها وهي أحكام الله تعالى التي استودعها الله القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأصابه على حد تعبير الإمام علي عليه السلام فكل من بذل وسعه من أجل الوصول إلى الحكم الشرعي الواقعي كان معذوراً على تقدير الخطأ مأجوراً على تقدير الصواب بل هو بمعنى من المعاني مأجور على كلا التقديرين ومثاب في كلا الحالين.
وفي كلام مأثور عن الإمام مالك أنه قال:
(إنما أنا بشر أصيب وأخطئ فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة)
.وعن الإمام الشافعي أنه قال:( إذا صح الحديث بخلاف قولي فاضربوا بقولي الحائط).
وروي عن الإمام أبي حنيفة قوله ( هذا رأيي وهذا أحسن ما رأيت فمن جاء برأي غير هذا قبلناه)
 وقد قيل للإمام أحمد بن حنبل (لم لا تضع لأصحابك كتاباً في الفقه قال : ألأحد كلام مع كلام الله ورسوله؟).
 
وقد ذكر الشيخ تقي الدين بن تيمية في جواب بعض المسائل
 (…وهؤلاء الأئمة الأربع رحمهم الله تعالى أجمعين قد نهوا الناس عن تقليدهم في كل ما يقولون وذلك هو الواجب)
ونقل عنهم بعض الأقوال التي نقلناها عنهم سابقاً كما جاء في كتاب جلاء العينين للألوسي وقد تأكد لنا مما تقدم وغيره أن الإختلاف يجب أن يعرض على الكتاب والسنة وأن هذا الإختلاف يعود إلى الإختلاف في المنهج وليس إلى التعدد في أحكام الله في الواقعة الواحدة بل حكم الله واحد وقد اختلفت المساعي والسبل التي توصل إليه بإختلاف الفقهاء والمجتهدين الذين بذلوا وسعهم من أجل الوصول أليه.
 
*
مقترحات للتقريب بين المناهج
 
ومن خلال ما استعرضناه في البحث قد ظهر جلياً أن الإختلاف ليس في الأهداف بل في الطرق المعتمدة عند كل فقيه ومجتهد فقد يختلف بعضهم عن البعض الآخر فيها وهذا الإختلاف يمكن أن تتقلص مساحته لوجود ضوابط متفق عليها تتحكم فيه وأهم هذه الضوابط هي الكتاب والسنة باتفاق الجميع فهناك مرجعية نرجع إليها عند الإختلاف ويحصل هذا التقريب في اعتقادي من خلال مراعاة الأمور التالية:
 
-
أ
 تجديد النظر في عملية استنباط الأحكام الشرعية من خلال النأكيد على مرجعية القرآن الكريم وآياته المحكمات ومحاولة التعرف على منهج القرآن في الإستدلال وطريقته في الإستنتاج والتطلع إلى الأهداف العامة التي وضعها للشريعة فإنها تشكل الخطوط العريضة التي تحدد مسير عملية الإستنباط وتحكم نتائجها وعلى سبيل المثال فعندما تكون الوحدة من أهداف الشريعة كما في قوله تعالى:
 ( إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) الأنبياء-92-.
لا يمكن للفقيه المجتهد أن يتجاوز هذا التوجه العام في الشريعة ويحكم بتجزئة الأمة وتقسيمها بل يصبح كل حكم يحمل روح التجزئة والإنقسام حكماً مخالفاً لأهداف الشريعة في روحها وجوهرها.
 
ب
-اعتماد مفاهيم القرآن الكريم عند النزول ومصطلحاته قبل نشوء المعاني التوليدية لكثير من الألفاظ القرآنية في العهود المتأخرة عن القرآن سيما عصور المذاهب فإن المعاني المقصودة عند النزول هي التي يجب التعبد بها شرعاً وهي التي ينبغي أن تؤخذ في الاعتبار عند القيام بعملية استنباط الأحكام.
وقد تأثرت بعض مناهج الاستدلال بالمصطلحات والمعاني المتأخرة عن عصر النزول وأدى ذلك إلى خلل كبير في عملية الاستنباط والاستنتاج.
 
وأضرب لذلك مثلاً لتوضيح الفكرة التي أرمي أليها ، فلنأخذ مثلاً سورة الحجرات من القرآن الكريم التي شرعت للعلاقة بين القيادة والقاعدة المؤمنة بها وبينت كيفية التعاطي معها ومع بعضهم البعض ومع غيرهم من المجتمعات الأخرى وقد استخدمت السورة المباركة في عملية التشريع هذه جملةً من العناوين التي أطلقتها على الأفراد، ومنها عنوان المؤمن وعنوان المسلم وعنوان الأخ وهذه العناوين تشكل موضوعات لمجموعة من الأحكام الشرعية.
 
ونلاحظ أن هذه العناوين قد أطلقت على أفراد المجتمع الذي صدق بالرسول وآمن به وبرسالته وليس هناك أي قيد آخر دخيل في صدق هذه العناوين وانطباقها عليهم في عصر النزول وهذا الإطلاق يجب ان يؤخذ بنظر الإعتبار عند القيام بعملية الإستنباط وتحديد المفاهيم وإثبات الأحكام لموضوعاتها هذا ولكننا نرى ان كثيراً من الفقهاء عند ممارسة صناعة الاستنباط في هذه المسألة يقولون أن للمؤمن معنىً إصطلاحياً وكذلك المسلم فيجعلون الايمان بالمذهب الذي لم يكن مولوداً عند الإطلاق القرآني دخيلاً في صدق عنوان المؤمن وانطباقه عليه ويرتبون على ذلك الأثر المعاكس فيقولون لا تحرم غيبة من لم يكن مؤمناً بالإصطلاح لأنه ليس بأخ أو ليس بمؤمن فلا تشمله الآية:
 ( أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه )الحجرات-12-
 ومن الواضح أن هذا الإستنتاج في غاية الخطأ والخطورة وهو يرجع إلى الخطأ في منهج الإستدلال والإستنباط الذي أبتعد عن مصطلحات القرآن ومفاهيمه وقت النزول.
ج-
 توخي الموضوعية واعتمادها في عملية الاستنباط – والمتتبع المراقب لهذه العملية يرى خلوها من هذا الشرط عند الكثير من الفقهاء من الطرفين ، فإن عملية استنباط الأحكام الشرعية تحتاج الى البحث عنها في مظان وجودها فكيف يعتقد الفقيه أنه قد وصل إلى حكم الله تعالى عندما يستثني في عملية البحث الألوف المؤلفة من الروايات والأحاديث والنصوص الدينية لمجرد أن جامع الحديث ليس من مذهبه ! ألا يحتمل فقيه المذهب الشيعي وجود الحكم الشرعي في تلك الروايات التي طرحها ؟ ألا يحتمل فقيه المذهب السني وجود الحكم الشرعي في تلك النصوص التي تخلى عنها ؟ فأين الموضوعية وأين البحث و الأستقصاء ؟ وأين استفراغ الفقيه وسعه وجهده في الوصول إلى الحكم ؟ بل قد لا يكون عند الفقيه المجتهد الذي يمارس عملية الإستنباط كتب الطرف الآخر !! وقد أدى هذا الإنغلاق والطرح المتبادل لهذا الكم الهائل من الروايات إلى عدم الإحاطة والشمولية فيما يمكن أن يصل إليه الفقيه من أحكام لأنه إنطلق من وسائل محدودة في عملية الإثبات حتى غدا المجتهد فقيهاً لمذهب معين وليس فقيهاً في الشريعة الإسلامية بمعناها الشامل وبالإمكان أن نتخطى هذه المشكلة من خلال كتاب يجمع السنة النبوية بأسرها ضمن جميع الأبواب الفقهية بحيث يصبح لزاماً على من يقوم بعملية الإستنباط في باب من الأبواب أن يراجع كل ما ورد من روايات بشأنه من مختلف الأفراد والجهات.
د-
 إبعاد الحوار الفقهي عن مسائل التاريخ فلا علاقة لخلاف سياسي بإستنباط الحكم الشرعي فلكل منهما إبعاد وسائله وأدواته وكما قال الله تعالى في كتابه:
 ( تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون)البقرة-134-.
هـ-
 تحكيم الكتاب والسنة بوسائل الإثبات وتحكيم الكتاب بالسنة لأنه هو الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وفي الحقيقة إن حجية السنة وإعتبارها دليلاً على الأحكام الشرعية مأخوذ من القرآن الكريم وحجيتها مشروطة بعدم مخالفة الكتاب فهو الذي يشكل الميزان لمعرفة الخطأ من الصواب فهو المعجزة الخالدة التي تفرض نفسها على البشر جميعاً وهو يجري فينا كما يجري الليل والنهار وسيبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها المحجة الواضحة والبراهين الساطعة وكما قال عنه علي عليه السلام:
 ( القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق لا تفنى عجائبه ولا تنقضي غرائبه ولا تكشف الظلمات إلا به) .
 
إننا بحاجة إلى إطلاق العنان لمرجعية القرآن الكريم فهو الذي يشكل الحكم الفصل الذي يجب الإذعان بقضائه والخضوع لحكمه ونحتاج إلى الكثير من الشجاعة التي تخرجنا عن الفهم الموروث الذي تولد عبر قرون عديدة ، إننا بحاجة إلى جرأة تلك المرأة عندما قالت للخليفة عمر بن الخطاب ( ليس لك ذلك ياعمر) عندما أعلن عن تخفيض مهور النساء إلى مستوى مهور نساء النبي(ص) وقد أستدلت المرأة بكتاب الله:
 ( وأتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيأً أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبنياً) لنساء-20- 
ونحن بحاجة أيضاً إلى شجاعة عمر وإيمانه بالقران وخضوعه لحكمه عندما قال معترفاً بالحقيقة أخطأ عمر وأصابت أمرأة.
-و-
 فتح باب النظر والإجتهاد لمن هم أهل لذلك كما كان الحال في صدر الإسلام فبالإجتهاد المعتمد على الأسس الشرعية ننعتق من رواسب الماضي وينطلق الفكر والعقل في المجالات الأرحب وعندئذ يحصل التلاقي رغم الإختلاف كما هو حاصل ضمن المذهب الواحد فعلاً ، ومع فتح باب الاجتهاد لا تصحُ نسبة الرأي إلى المذهب ويصبح المجتهد مسؤولاً عن الرأي الذي ينسب أليه وهو الذي يتحمل المسؤولية عن رأيه وحده وهو إجتهاد محكوم بسقف القرآن الكريم وضرورات الشريعة فلا يجوز الإجتهاد في مقابل النصوص الدينية الصريحة ولا يجوز الاجتهاد في ثوابت الشريعة وما هو من ضرورات الدين فإنه مهما حصل الإختلاف في الرأي فلا يصح وقوعه في أصل وجوب الصلاة والصوم والحج والزكاة والجهاد وغيرها من العبادات والمعاملات المعلوم ثبوتها بالضرورة من الدين فهي من المقدسات التي لا يجوز المساس بها.
 
وإذا كان الاجتهاد وسيلة للعلم والمعرفة فمثل هذه الأمور المعلومة مسبقاً لا معنى لإستخدام الاجتهاد فيها وفيما عدا ذلك فإن معرفة شخص ليست ملزمة لشخص آخر مثله بل هي حجة عليه وله بينه وبين ربه فقط.
ولعل الاختلاف المذموم في القرآن الكريم ناظر إلى هذا النحو من الاختلاف في الثوابت كما في قوله تعالى:
(وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعدما جائتهم البينات بغياً بينهم ) البقرة –213- 
وقوله تعالى (وإن الذين إختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد ) البقرة-176- 
وقوله تعالى (وما كان الناس إلا أمة واحدة فأختلفوا) يونس-19-
 وقوله تعالى( وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي إختلفوا فيه) النحل-64- 
وقوله تعالى (وما اختلفتم فيه من شىء فحكمه إلى الله ) الشورى –10-
 وقوله تعالى (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما إختلفوا فيه) البقرة-213- 
والموارد التي أستخدم فيها الإختلاف بهذا المعنى المذموم متعددةً بل يفهم من بعض الآيات المتقدمة أن من أهداف الدين إزالة الإختلاف عبر مرجعية الكتاب.
وغير خفي أن النزاع الذي نهى عنه القرآن الكريم منشأه الإختلاف الفكري الذي لا يرتكز على مرجعية واضحة ومحددة فالأفكار المختلفة التي لا يحكمها سقف واحد تتحول إلى سلوكات متباينه ومتعاكسه وعندئذ يحصل النزاع وتكون النتائج غير الحميدة.
ز-
 إتجاه البحث نحو القواسم المشتركة ونقاط الإلتقاء وما أكثرها فهي التي تشكل المناخ المناسب للإنطلاق منها إلى تضييق مساحة الإختلاف ، وعندما نعتمد مرجعية واحدة في الفكر والسلوك وهي مرجعية القرآن الكريم سنجد أن كثيراً من الفجوات ستردم وأن كثيراً من المناهج ستعتدل وبذلك ينتهي الخلاف في أكثر التفصيلات في الأصول والفروع لإشتمال القرآن على الكثير من المعتقدات وأصول التفريعات التي يجب أن تعرض عليه وتزول بذلك أكثر الموروثات مما لا تعضده الآيات و لا تؤيده الروايات.
 
ويكفينا هذا القرآن المبارك جامعاً لنا مهما بلغ الخلاف في غيره من الأدلة فهو الذي يجمع بين مختلف الأطراف في أعمق الروابط وأهمها على الإطلاق فهو يجمعنا على التوحيد والنبوة واليوم الآخر والقبلة والتزاوج والمآكل والمشارب والمواريث وغير ذلك من العبادات والمعاملات وبعد هذا فهل يوجد في الدنيا مجتمع تتوفر له هذه العوامل العديدة لوحدته وتماسكه على مستوى الفكر والسلوك معاً.
وإذا حصل إختلاف الرأي في إستنباط بعض الأحكام من القرآن فهو إختلاف يسمح به الإجتهاد المشروع وهو لا يستوجب العداوة والبغضاء ولا يستلزم التشهير ولا يستتبع التكفير.
هذه مجموعة من الإقتراحات على المستوى النظري أقدمها لأصحاب الفضيلة في هذا المؤتمر المبارك وفي اعتقادي أنها تساهم إلى حد بعيدٍ في العودة إلى الإسلام بلا مذاهب وتقلص مساحة الإختلاف بين المذاهب إلى درجة قريبة من الإلغاء.
وفيما يلي بعض المقترحات العملية التي تساهم في دفع عملية التقريب بين المذاهب إلى الأمام والتسريع بها وصولاً إلى الهدف الأشمل وهي تتلخص في الأمور التالية:
1-       تعديل مناهج التدريس في الحوزات والمعاهد الدينية بالشكل الذي يؤدي إلى إنشاء جيل من العلماء همهم أن يتعرفوا على رأي الإسلام في الأحداث والوقائع لا معرفة الأشخاص وآرائهم.
2-       إنشاء معهد ديني من قبل المرجعية الدينية في الأزهر الشريف والنجف الأشرف وقم المقدسة يحظى الخريجون منه باعترافها ويرسلون إلى العالم الإسلامي للتبليغ الديني.
3-       إنشاء إذاعة دينية تعد لبث البرامج الدينية التي تساهم في نشر الوعي الديني ونبذ الفرقة والتعصب.
4-       إنشاء هيئة مشتركة لتحديد المناسبات الدينية وتوحيدها.
هذا وعسى أن نصل إلى ما نصبوا إليه وبذلك نخرج عن قول القائل:
 ( ويل لأمة يجمعها الدين وتفرقها المذاهب).
والله من وراء القصد وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.