في إبحارٍ عظيم للأسلوب الوصفي للمدرسة الروائية الكلاسيكية القديمة، يبرز الروائي ألفونس دو لامارتين الذي صُنّف كأحد أبرز شعراء المدرسة الرومانسية الفرنسية الشعرية، لأنّه تعدّى مفهوم الوصف المتعارف عليه في الترتيب الروائي ليقحم غمار الشعر النثري ويجتّر آلام أبطاله فيه، حيث نرى خيال جبران خليل جبران بارزاً في الأسلوب الوصفي التنميقي للرواية.
 

في رواية «جوسلين» يتهيّب الكاتب ملامسة تخوم الواقع فينطلق بالقارئ نحو جحافل الغيم وتراتيل الصباح وأقحوان المروج، عازفاً مونولوج الإحساس في كلّ ركنٍ من أركان الطبيعة التي احتواها كما احتوته، وعاشت في أعماقه كنسائم الربيع الذي لا غنى للورد عنها.

حب عذري

تحكي الرواية قصة شابٍ يدعى جوسلين اضطرّ منذ يفاعته إلى تلبية نداء الله ليكرّس نفسه كاهناً، وقد نبع هذا الإضطرار ربما عن حاجة أخته الملحّة للزواج من حبيبها المعدم الفقير في البيت الذي يعيشان فيه مع أمهما، حيث يمتلكان بستاناً صغيراً يوزّع عليهما بالمناصفة. فيجد نفسه مضحّياً في سبيل أخته بالدنيا ومآثرها دون أن تطلب منه ذلك، وقد شعر بأنّه قد خُلق في سبيل إسعاد الآخرين وطمأنة نفوسهم.


لم ينصت لتوسّلات أمه لردعه عن قراره، فيذهب إلى أحد الأديرة ناسكاً راهباً، يذر الفضيلة حوله ويتنكّر لكلّ مغريات الحياة وملذّاتها، إلى أن تنشب الثورة الفرنسية وتعربد في قحطها المجنون وتأخذ بأرواح أناسٍ أبرياء، وفي هذا يتناول الكاتب موضوعاً سابقاً لعصره في تجنيد قلمه لإبراز سيّئات الثورة التي تطفح عن القمع والكره والضغط فتصبح متعطّشة للدماء، وشدق مقصلتها لا يرتوي من أجساد الرهبان وغيرهم.


يفرّ مكرَهاً إلى الجبال، حيث يرأف به راعٍ للغنم ويرشده إلى مغارة يختبئ فيها من كيد الجنود، ويدسّ له الطعام خلسة كل ثلاثة أشهر في صخرة جوفاء حتى لا يتعرّض للمراقبة ويفضح أمره، وفي أحد الأيام يلتقي برجل من الأشراف مع ابنه فارّاً من بنادق الجنود فيحاول أن يساعدهما على الإختباء، إلّا أنّ الرجل يموت ويترك له ابنه «لورانس» البالغ من العمر ستة عشر أمانة بين يديه ويدفنه جوسلين قريباً من المغارة التي تأويه.


يربط الأنس والمؤاخاة الإثنين برابطٍ من المحبة القوية وتمضي سنة، فيتعرّض لورانس للإصابة عند سقوطه من علوٍّ، فيحاول جوسلين تضميد جراحه، ونزع ملابسه عنه ليفاجَأ بأنّه فتاة. فتقرّ له بأنها ادّعت بأنّها صبي حتى تنفّذ وصية والدها الراحل الذي حاول حمايتها.


هنا يحتدم الحبّ العذري بصراعٍ مرير بين قلب الكاهن وقلب الفتاة العذراء، ويكاد يهجر الدين ليسير وراء قلبه، إلّا أنّ نداءً من كاهن يُحتضر في الكنيسة يسير إليه يردعه عن مزعمه، حيث يشدّد عليه الكاهن بأن يتبع نداءَ الرب ويصبح كاهناً رسمياً، ولا يتيه عن الدرب المستقيم، حتى لو ذبح قلبه بيده.

إسهابٌ في الوصف

يضحّي جوسلين بحبيبته لورانس ويسلّمها بيديه إلى راهبة للإعتناء بها ويهرب من عشقه إلى قرية مهجورة يبث فيها الدعوى والموعظة وقد داس على قلبه وحطّمه ليرتقي إلى الشعاع الأزلي للخالق.


يلتقي بعد فترة بلورانس وقد أصبحت بائعة هوى، ينتفض من هول الكارثة، يهرع بعيداً وهو لا يستطيع أن ينزعها من السخام الذي انحدرت إليه وقد حمّل نفسه مسؤولية ضياعها ولم يجد إلّا الدعاء لها وسيلة لإنقاذها. وبعد فترة يستدعيه رجلٌ من أهل القرية على صلة بها للإعتراف بين يديه بخطاياها وهي تنازع الرمق الأخير. تُفاجأ به وتموت راضيةً بحضوره إلى جانبها ليمسك بأنفاسها المضمحلّة ويمنحها بركة التوبة. ثمّ يدفنها حيث دفن والدها جانب المغارة التي كانت مأوى لهما. بعد مرور أيام قليلة يموت جوسلين ويُدفن هو الآخر إلى جانب حبيبته ووالدها وتُطوى أسطورة العشق الخالد العذري البريء الذي يشكّك كثيرون في وجوده.


لامارتين كاتبٌ ينتمي إلى جيل الروائيين الكلاسيكيين القدامى ولكنه تجنّب الحوارات المطوّلة والسرد العشوائي الذي كان سائداً آنذاك، ودمج الشعر والخطابة بالرواية، وهذا مأخذٌ عليه، فتضخّمت الحبكة وتصلّبت أوردتها.


نلاحظ بأنّ كتابات جبران خليل جبران تقع في تشابه كبير مع أسلوب لامارتين، خصوصاً في الوصف التطبيعي والتصوير المشهدي والتطوير الخيالي للمشاهد المنمّقة في رسوم العين، حيث تأخذها لتغمّسها بآهات الخيال وتلوّنها بلازورد الوجع والحنين وتقدّمها للقارئ لوحة فنية شعرية بديعة.


والإسهاب في الوصف هو من صفات الكاتب جبران، ولا ندري مَن تأثر بالآخر ولكنّ لامارتين قد وُلد قبل جبران بسنوات طويلة، وهذا الشبه الكبير التوأمي بين الإثنين ينمّ عن توارد خطير للأفكار أو تأثّر كبير بها.