على رغم استخدامها لتقنية الأصوات المنقلبة على نفسها، أي المتنقّلة من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب وبالعكس، وهذا انصهارٌ إنتاجي في الفكر والدراما، إلّا أنّ الكاتبة البريطانية بينلوبي لايفلي، قد أخضعت كلّ تلك الأصوات الشاردة والواردة لمنطق التاريخ اللامتسلسل، بإجادةٍ تامّة، دون أن تشتَّ قيد أنملة عن لبِّ الحدث، أو تستثمر المكان والزمان كدرعٍ مشروع للحدِّ من التنقّل الدائم في السرد.
 

ترسمُ الكاتبة من خلال بطلتها كلوديا خريطةَ روائية بحدودٍ مترابطة، تبدأ من ظلّها وهي مستلقية على سرير المرض، وبجوارها الممرّضة التي تهتمّ بها، ثم تسحبها بقلمها بعيداً لزمن طفولتها، مع شقيقها غوردن الذي شكّل مجسّماَ هائلاً في التأثير والتمهيد لشبابها. إذ كانت ترى فيه نفسها في شتّى مراحل حياتها، كأنّه توأم روحها الذي يكمّلها شاءت هي أم أبت، وتلمّح بشكلٍ ضبابيٍّ متهيّب، في فصلٍ معيّنٍ من الرواية بملامساتٍ حميميّة عابرة جمعتها بأخيها عندما بلغا مرحلة الشباب، وبغيرة وفضول زوجته سيلفيا الساذجة المسكينة منها وإدراكها بالعلاقة الغريبة التي تجمع الطرفين.

صنارة الإثارة
لا يوجدُ ترتيبٌ زمني لذكريات كلوديا، هي تستحضرُها بشكلٍ لامتوازٍ ومبهم، يراودها كأطياف نائية بعيدة، وتجذب صنارة الإثارة بهذه الصورة الواقعية، التي يجب أن تكون عليها امرأة عجوز، نضب منها الزمن وتجمّد على حدود مخيّلتها الضيّقة، فباتت الأحداث تختلطُ عليها، ورغم أنّ الكثيرين من النقّاد قد هجوها لهذا الأمر، فقد كان من الضروري أن تعبث بالزمن والأمكنة حتى تعطي مصداقيةً للرواية وما يتأّتى من التأخير والتقديم لذاكرة عجوزٍ في السبعين من عمرها.

تكبر كلوديا وتلتقي بجاسبر وتعجب به، يقيمان علاقة تثمر عن ابنة تطلق عليها لقب ليسا، ثم تنفصل عن حبيبها للهوّة الشاسعة التي تفرّق بين فكريهما ومنطقهما في الحياة، فهو يعتنق مبدأ الرأسمالية ويسعى لكسب الأموال بأيّة وسيلة، يميل مع كلّ ريح، حتى يستطيع الإستفادة من استثمار المكاسب. أما هي، فترى التاريخَ جبهةً عالية لا تقهر، يجب أن لا يستغلّه الغاوون لتحريفه، وأن يخضع للمراقبة الشاملة. حيث تستحضر أبطالاً تاريخيين مثل ارنان كورتيس، والملك مونتيزوما ولارس بورسينا، ورومل والشعراء القدامى مثل هوميروس وغيرهم.

تؤمن بعكس ما تفكر
وبما أنّ البطلة قد ولدت في مصر، فقد كانت معظم المحطّات المصيرية في الرواية هناك. والفجوة الدامية في الرواية، تعمّد الكاتبة توجيه النقد والتهميش العام للمواطنين المصريين، وهذا ينمّ عن أنّها تؤمن بعكس ما تفكر، إذ تتحدّث عن الإستعمار بتسرّباته الإستنقاعيّة المنحدرة للحضيض في تراث وحضارة البلدان، وتمقت الحرب التي لا تجني إلّا قطع الرؤوس وتصفية النفوس، وفي الوقت ذاته تتحدّث عن الطبقة الكادحة في مصر بطريقةٍ باذخة التهجّم، إذ تصفها بالشعب الفطري البسيط الذي ما زال يؤمن بعودة الروح بعد الموت، وتصف استسلامهم وخنوعهم للبريطانيين وكأّنهم اعتادوا أن يكونوا مؤتَمرين منهم، وتتكلم عنهم بكونهم الطبقة المسحوقة الضعيفة، ولا تصف عروبتهم الحقّة أو تعطيها حقّها، بل تتكلم عن العلاقات الإجتماعية المعدومة بينهم وبين الإنجليز، واصفة شهامة وشجاعة ضباط بلدها، إذ إنّ نادي الجزيرة في القاهرة مثلاً، كان محرّماً على غير الإنكليز. وهي لا تعرج على القمع والظلم اللذين وقعا على كاهل المصريين بسبب الإحتلال الغاشم من قبل الدول. 

إنكسار عاطفي
وتثير القصة مسألة عزوف كلوديا عن العالم الخارجي لتتفرّغ لتغطيتها الصحافية في الصحراء، حيث تلتقي بالضابط الروسي توم، وتقع في غرامه، ويخططان للزواج بعد أن تنتهي الحرب... ولكنه يقتل لاحقاً، ما يسبّب انكساراً عاطفياً جسيماً لها، وتكتشف بأنّها حاملٌ منه ولكنّ الجنين يموت في رحمها. ويعيش معها توم بشبحه، محاصراً إيّاها بالذكريات الفائضة بالحنين والوجع، وهي طريحة الفراش، وحتى الأنفاس المتبقّية من عمرها. تنتقل كلوديا للتحدّث عن جانب الإبداع لديها، وطلب المخرجين في الإستفادة منها في أفلامهم التاريخية، حيث يحدث عندما تلبّي طلب أحدهم، أن تقع في شرك حادثٍ كبير، تنجو منه بصعوبة. ثمّ تدخل شخصية لاسلو الذي تبنّته تقريباً في يفاعته عندما اتًّصل بها شخصٌ مجهول وكان والده، وقد هاتفها من بودابست متوسّلا إياها الإعتناء بابنه، حيث تتكفّل به إلى أن ينتقل للإقامة مع صديقه المثلي الجنسية مثله، وتصف علاقتها الواهنة الجافّة بابنتي ليسا التي لم تنجح في أن تكون لها أمّاً حسب رغباتها الخاصة.

الجنون الشعبي
الرواية برمتها هي تفصيلٌ مقيتٌ عن الحرب العالمية الثانية، فكون الكاتبة قد ولدت في مصر، فإنها استفادت ثقافيّاً في تصوير الجنون الشعبي، والتحرّك السياسي لجميع الأطراف المتقاتلة، ودسّت شخصيات تاريخية عظيمة كمثلٍ على التجنّي والترابط، والتجميع والتفريق، والتمهيد والتشريع للأفكار التي تنظّمها في حياة بطلتها كلوديا، التي تحبسُ حبيبها توم رغم موته بين أنفاسها، وفي ترميم صورته من الرمال التي شهدت المعارك الدموية، وقراءة مذكراته التي تركها لها قبل الرحيل.

تنتهي الرواية بمناجاةٍ عميقة من كلوديا التي أصبحت مسنّةً واهنة، لحبيبها توم الذي رحل وهو شاب في الثلاثين من عمره، فاحتفظت ذاكرتها بهيئته الفتيّة فتقول: «وهكذا.. في نهاية المطاف نتأمّل هذا ونحن مفترقان، مفترقان بسنوات، لم نعد في الحكاية نفسها، وحين أقرأ ما كتبته أفكر في كل ما لا تعرفه أنت، لقد تخلفتَ في مكان آخر وزمان آخر، وأنا صرت شخصاً آخر، لم أعد كلوديا التي كنتَ تفكر فيها، كلوديا التي كنتَ تتذكرها، ولكن لا يمكنك أن تتخيلها، وقد تنفر منها، ربما صرت غريبة، تسكن عالماً لا يمكنك أن تعرفه، أجد أنّ هذا يصعب تحمله».

«مون تايجر» هو اسم للفائف طارد الناموس، الذي كان مشتعلاً متأجّجاً في الليالي التي قضتها في أحضان توم. وكأنّها الأنفاس اللاهبة التي ما تلبث أن تستحيل إلى رماد ذكريات لن تعود، وقد نالت جائزة بوكر، التي ترصد دائماً وتولي اهتماماً للوصف الدموي للحروب وضحاياها، وتسلّم بأنّه الموضوع الأكثر إشادةً في كلّ الأزمان، وقد أجادت لايفلي تمسيد الأوتار الناعمة لنجاح عناصر روايتها الفنّية وتجميلها، ولكنّها خذلت قارءها بعنصريتها المتوارية وراء وشاح اللاتعصب الذي تدّعيه.