رغم أنّ الكاتب الإنكليزي رونالد وولف قد استبعده عن أنطولوجيا الأدب الحديث، يبقى الكاتب الاسكتلندي روبرت لويس ستيفنسون سابقاً لعصره ودامغاً للحداثة السابقة لأوانها في أيامه، من خلال روايته الأشهر «دكتور جيكل ومستر هايد» والتي تحوّلت فيما بعد إلى مادّة دسمة للمسرح والسينما.
 

وصف أحد أقاربه عزوفَه لأيامٍ ثلاثة لكتابةِ روايتِهِ في غرفته واصلاً النهارَ بالليل، بأنّه لم يلقَ مشقّةً في تدوينها وتنقحيها في فترة وجيزة على طريقة «كافكا» رائد الكتابة الكابوسية الذي صُنّفت كتاباته بالواقعية العجائبية.

نقد واسع
ورغم النقد الواسع الذي طاله وحاول أن يقوّض من فرطِ تفانيه في حشد الميتافيزيقيا البشرية بالإنفصام الوجداني في انصهارٍ باردٍ يتقلّبُ على جمرِ الإستكشاف البعدي لثلاثية الخير والشر والصراع الإنساني، فقد غاب عن بال معظم النقّاد من المفكرين والأدباء والمثقفين أنّ ستيفنسون قد قطع أشواطاً من سنواتٍ هائلة ليضيف لعلمِ النفسِ ظاهرةً حيّة من خلال بطلي روايته «دكتور جايكل ومستر هايد».

الطبيب جايكل يبدو مثالاً للمدينة الفاضلة من حيث الخير والأخلاق الخيّرة التي تشمل الكبير والصغير، يأخذُ دفّة الخير في يده ليساعد ويعين وينتشل مَن حوله من آلامهم وجزعهم. 

يصدم أصدقاءه ومعارفه وخصوصاً صديقه المحامي «مستر آترسون» بعلاقته الوثيقة بمستر هايد، الذي لا يظهر إلّا في الظلام على شكلٍ مريبٍ مثيرٍ للنفور، يجوب الشوارع محدثاً جلبةً مزعجة، وقد قام في إحدى الليالي بضرب فتاةٍ صغيرةٍ وداس عليها بقدمه وولّى هارباً فلحقه أبناء الحي وجمعٌ من أهلها وقاموا بإجباره على دفع جزيةٍ لعمله المشين، الذي جعل فرائص الفتاة ترتعدُ خوفاً، فإذا به يدخلُ منزل الدكتور جايكل بكلّ راحةٍ وأمان ويتوارى وراء الباب عائداً بالمبلغ المطلوب الذي ظنّ الجميع بأنّ الطبيب قد أنقده إياه.

يبلغ تعلّق الدكتور جايكل بصديقه الشرير الجديد حدّ أن أوصى له بثروته كاملة بعد وفاته ما يشكّل صدمةً هائلة في فكر صديقه المحامي آترسون.

 
 

جريمة بلا سبب
ولكنّ الأمور تتفاقم عندما يقترف مستر هايد جريمة قتل بحقّ رجلٍ بريء بلا سبب. حينئذٍ يتبرّأ الدكتور جايكل من صديقه المجرم ويقسم أن لا يراه ثانية، فيرتاح المحامي ولكن جموحه لا يقف عن هذا الحد. فبعد أيامٍ قليلة يعتكف في غرفته صامتاً رافضاً أن يرى أحداً من معارفه، فيلجأ كبير خدمه لمنزل صديقه المحامي آترسون متوسّلاً إيّاه أن يكشف اللثام عن سرّ تغيّر سيّده.

يكسر المحامي باب غرفة مستر جايكل بمساعدة كبير الخدم بعد أن ييأسا من مناشدته بفتح الباب، فيتفاجآن بأنّ الملقى أمامهما على الأرض جثة هامدة بوضع المنتحر هو مستر هايد، ولا أثر لمستر جايكل.

رسالةٌ موضوعةٌ على الرفّ تكشف السرّ الكبير، ويقرأها المحامي آترسون فقد عثر مستر جايكل في ليلةٍ ظلماء على سرٍّ في بعض المكوّنات الكيميائية تساعده في التحوّل إلى شخصٍ آخر ينبثق من رحاب شخصيته الخيّرة وينشقّ من ضلع النور في قلبه المرهف ليستحيلَ شيطاناً يلاحق في الليالي الساجيات، نحيب الشر ويرهف سمعه لكلّ ما يؤذي غيره، ولا يتورّع عن اقتراف جريمة قتل في لذّةٍ وجرأةٍ وجبروتٍ هائل.

إنفصام
هذا الإنفصام الذي خاله مستر جايكل موقّتاً قد وضع حياته على كفّ الميزان، متأرجحاً بين النور والظلام، يميل لدفّة الخير تارة ولدفّة الشر تارة أخرى، يطرق أذنه صراعٌ دموي يحدث أصواتاً جهنّمية في روحه، فيجد نفسه بعد أن قرّر أن يبقى مستر جايكل رغماً عن أنفه يتحوّل إلى مستر هايد من دون أن يتناول أيّة عقاقير.

مرض الإنفصام هو مرضٌ جوهري يمسّ الكثير من الأشخاص، وقد عالجه الكاتب هنا بأسلوب الحائك المتمرّس في عمله، فالصراعُ بين الشخصيتين كالنصال المسنونة تتجشّم عناء الإختيار، حتى يميلُ كفّ الشر للإنتصار، وكأنّ العقدة الإنفصالية التي تنشأ عن فرط القلق والتساؤل ترجّحُ ما يغذي فضولها، وترى في الخير انكسارَها وانهزامَها. 

لا بدّ من الإشادة بدور المترجم جولان حاجي في استقاء المعاني البارعة الفريدة واحتدامها بالخذلان والإستنفار النفسي ونقلها بكلّ دقة إلى القارئ.
روبرت ستيفنسن تألّق وتبحّر في عالم الأدب الكابوسي النفسي، مختصراً حواشي الرواية الكلاسيكية القديمة من الحوار المطوّل والتفصيل الممل، في أسلوبٍ غاية الأناقة والرشاقة والحذاقة، ناسجاً قالباً من الإثارة اللامحدودة في تسيير عناصر أحداثه، فبرع وقرع نواقيس الإبداع بكلّ ما يحتويه وبعناصر إضافية أيضاً. مع الإشارة إلى أنّه وعند وفاة الكاتب قد أوصى أن يوضع له شاهدٌ كتب عليه: «عند السماء الواسعة المرصّعةِ بالنجوم.. احفرْ لي قبراً ودعني أرقد».