المعركة السياسية حول تشكيل الحكومة اللبنانية إلى احتدام أعنف، في ظل محاولات التضييق أكثر فأكثر على الرئيس المكلف سعد الحريري، الذي يصر على حكومة وحدة وطنية جامعة، تساعد في تحريك الوضع الجامد، وتكون قادرة على الاستجابة لأمرين؛ أولا الشروط التي تطلبها الدول المانحة من لبنان وهو ما سمعه في مؤتمر «سيدر»، وثانياً الانخراط الجاد والفعلي في معركة كبيرة لمحاربة الإهدار الذي ينخر عافية لبنان ويعمّق من ثقافة الفساد المتغولة!


ولكن بعد العودة إلى الحديث عن تشكيل حكومة أكثرية، وهو ما لمح إليه الرئيس ميشال عون، وبعد التمسك بالحصول على حصص حكومية تبدو مجحفة حتى إلغائية، ومن شأنها إعطاء التحالف بين الثنائي الشيعي و«التيار الوطني الحر» أكثرية الثلثين المقررين في كل شيء، تبدو الأمور وكأنها دخلت فعلاً في نفق طويل ومظلم!


يأتي كل هذا بعد مرور ما يقرب من عامين على العهد، رغم أنه سبق لعون أن قال إن عهده سيبدأ مع تشكيل الحكومة الجديدة، وها هي الحكومة عالقة في شروط عرقوبية ليست بعيدة عن موقفه، وصلت تكراراً إلى درجة التلويح في أوساط «حزب الله» وحلفاء سوريا العائدين على أكتافه في الانتخابات النيابية، بالسعي إلى انتزاع التكليف من الحريري، وهذا بمثابة إثارة للفتنة لأن الدستور واضح، فهو لم يحدد مهلة للتشكيل، ونص صراحة على أن الرئيس المكلّف هو الذي يشكل الحكومة ويطلع رئيس الجمهورية عليها… ونقطة على السطر كما يقال!


في انتظار الخروج من هذا النفق المظلم، دعونا نتحدث عما هو أكثر ظلمة وحلكة، ليس فقط في قصة «البواخر العثمانية» التي تكهرب البدن أكثر مما تنير المدن، بل في مسائل الفساد والإهدار والفلتان التي ويا لمرارة السخرية، يتفق كل المسؤولين والسياسيين شكلاً وقولاً على ضرورة محاربتها، ولكنها واقعاً إلى مزيد من التفاقم المتوحش!


في الأسبوع الماضي كان اللبنانيون بقصة «فقّاسة الصيصان» التي اكتشفت في شركة الكهرباء وصارت الأكثر تداولاً وسخرية على وسائل الاتصال الاجتماعي، وهذا الأسبوع جاءت قصة سكك الحديد التي لا تُصدّق، عندما نشرت الجريدة الرسمية إعلاناً جاء فيه حرفياً: «مناقصة عمومية لتقديم محروقات سائلة ديزل أويل أخضر لزوم مصلحة سكك الحديد والنقل المشترك، وذلك في تمام الساعة العاشرة من يوم الثلاثاء الواقع في 28 - 8 - 2018… على الراغبين بالاشتراك في المناقصة العمومية الحصول على نسخة من دفتر الشروط في قسم اللوازم مقابل مبلغ 150000 ل ل… إلخ».


هكذا بالحرف، ولكن أيها الذكي، ليس في لبنان سكك حديد منذ 40 عاماً، وخطوط هذه السكك التي كانت في الماضي تربط صور في الجنوب بطرابلس في الشمال، فإما طُمرت بالتراب وإما صارت تحت الطرق الإسفلتية، وإما سُرقت وبيعت خردة أيام الوصاية السورية!


ولكن ليس في الدولة اللبنانية من يقرأ نص هذا الإعلان الفضيحة، وخصوصاً بعدما أثيرت ضجة كبرى على زيادة رواتب مدير وموظفي مصلحة السكك الحديد، يوم قامت القيامة حول سلسلة الرتب والرواتب التي تكاد تُفلس الدولة، وكما هناك مصلحة لسكك غير موجودة، هناك مثلاً مكتب للشمندر السكري، رغم أن معمل السكر مقفل من قديم الزمان، وهناك مكتب للقمح وليس من قمح... «تأكلين يا سيدتي الدولة الغافية» وبالأحرى الفاسدة!


أعود تكراراً إلى قصة أنجيلا ميركل، التي عندما زارت لبنان قبل أسبوعين، وضعت أمام المسؤولين عرضاً من شركة «سيمنز»، وقال أحد كبار مرافقيها إن ألمانيا مستعدة لأن تقدّم حسماً من أجل إنعاش لبنان، ومقابل 800 مليون دولار فقط ستؤمن الإنارة بالكامل «24 على 24» لـ7 ملايين شخص، وهذا الكلام مسجّل في محضر رسمي لدى أحد كبار مراجع الدولة، كما أن ميركل أبلغت المسؤولين أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قال لها إن فرنسا وإيطاليا مستعدتان لتزويد لبنان بكل حاجته من الطاقة بأسعار رخيصة جداً!


لكن ليس في أوساط الدولة اللبنانية سوى الصمت وتجاهل كل ما قيل في هذا الشأن، ربما بسبب الخلاف المستجد في الأيام القليلة الماضية بسبب الباخرة العثمانية الثالثة، التي قيل إنها ستزود لبنان بقسم من الطاقة مجاناً لـ3 أشهر ثم تغادر، في حين تتوقع أوساط في وزارة المالية أنها ستبقى مدفوعة الأجر مثل سابقتيها، وهو ما كلّف لبنان ما يقرب من 7 مليارات دولار كان يمكن أن تنشئ معامل تحل هذه المشكلة.


ما لا يصدق أن الباخرة الثالثة كهربت الأجواء والعلاقات قبل أن تنير المنازل، فبعدما قيل إنها سترسو في الجية، نقلت إلى الزهراني في الجنوب، وقيل إنها ستخفف من ساعات التقنين وتحسن التغذية بالتيار، فاعترضت عليها حركة «أمل» لأسباب قيل إنها تتعلق «بالحفاظ على البيئة» وبضرورة إنشاء معمل جديد، بينما قال مناصرو «حزب الله» إن أصحاب المولدات الخاصة الذين سيتضررون من الباخرة ضغطوا لإبعادها... وهكذا كان!


وتهادت الباخرة من الزهراني مروراً بالجية وصولاً إلى منطقة ذوق مصبح، حيث قيل إنها ستؤمن الكهرباء لمنطقة كسروان وجبيل وقسم من المتن 23 إلى 24 ساعة في اليوم، وهنا قامت القيامة في أماكن أخرى، عندما قال أصحاب المولدات الخاصة في تلك المناطق إنهم يطالبون الدولة بـ«عطل وضرر»، بسبب الباخرة التي «ستقطع رزقهم»، وجاء هذا كمشكلة إضافية، بعد رفضهم قرار وزارة الاقتصاد تركيب عدادات تضبط فواتيرهم، ورفضهم التعريفة التي تقررها وزارة الطاقة ثمناً للكيلوواط.


مسخرة المساخر أن يضطر 3 وزراء، الطاقة والاقتصاد والداخلية؛ إلى اجتماع لحلّ مشكلة «مافيا المولدات الخاصة» الذين يهددون بإغراق لبنان في العتمة، في وقت كانت وكالة «بلومبيرغ» تقول إن هذه المافيا التي تؤمن نصف حاجة لبنان من الطاقة، باتت تتحكم بسوق تتراوح قيمتها من مليار ونصف المليار إلى ملياري دولار، وإنها تقف في وجه كل من يحاول إحداث إصلاحات في قطاع الكهرباء.


وتقول «بلومبيرغ» إن مافيا المولدات تملك نفوذاً على البلديات وتربطها علاقات بسياسيين نافذين وبزعماء في السلطة، وإنها تدفع عمولات لتحول دون حل مشكلة الكهرباء، ما يدفع البعض الآن إلى التساؤل، لماذا لم يأخذ عرض ميركل طريقه الفوري إلى التنفيذ، وخصوصاً أن كل ذلك جاء في وقت نقلت الوكالات خبر افتتاح الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي 3 محطات عملاقة لتوليد الكهرباء نفذتها شركة «سيمنز»، وبلغت كلفتها 6 مليارات يورو وتؤمن 14400 ميغاواط، أي 8 أضعاف ما يحتاجه لبنان، الذي أنفق حتى الآن ما يقرب من 35 مليار دولار، أي ثلث دينه العام على هذا القطاع، الغارق في عتمة العقول وظلام المسؤول والمسؤولية، في حين يقول وزير المال إن البواخر العثمانية كلفتنا المبلغ إياه الذي عوّم مصر بالكهرباء!


زيادة في تعتيم القلب قد يكون من المناسب أن نتذكّر، أن الإهدار المقصود والفساد المتوحش مثلاً، هما اللذان فرضا في موازنة 2017 رصد مبلغ 113 ملياراً و820 مليون ليرة سنويا، كلفة إيجارات لمباني الدولة، تتراكم عاماً بعد عام، وكان يمكن أن تعمّر بيروت ثانية، ولنتصوّر فقط أن مبنى الأسكوا تستأجره الدولة منذ أعوام بمبلغ 10 ملايين دولار سنوياً، وكان في وسعها أن تشتري بالمبلغ أحد أبراج مانهاتن!