يوم الأربعاء الماضي، قبل أن يتم دفن داني أبو حيدر، وهو المواطن اللبناني الذي انتحر بسبب الفقر والعجز عن إعالة أسرته، وبعد انتهاء الاجتماع الثالث الذي عقد بين الرئيس سعد الحريري والوزير علي حسن خليل، ممثل الثنائية الشيعية، التي تحاول عبثاً منذ أسبوعين الحصول منه على تأييد مكتوب للمرشح سمير الخطيب، أعلن الرئيس ميشال عون عن موعد إجراء الاستشارات النيابية يوم الاثنين المقبل، مستأخراً الموعد خمسة أيام إضافية، وبعد استقالة الحكومة قبل 34 يوماً، و47 يوماً على اندلاع الثورة الشعبية العارمة!

 


ما الذي سيتغير بين الأربعاء الماضي ويوم الاثنين؟
لا شيء قطعاً على مستوى أزمة السلطة وتشكيل الحكومة، المعطوفة على أزمة اقتصادية أدخلت لبنان مرحلة الإفلاس والانهيار، فلا طريق رئاسة الحكومة سالكة أمام المرشح سمير الخطيب، ولا طريق عودة سعد الحريري ممكنة بعد تحطم التسوية السياسية التي أدت إلى انتخاب عون رئيساً، ولا قبول الانتفاضة وارد ما لم تكن الحكومة الجديدة من اختصاصيين ذوي كفاءة، وبعيدين عن زواريب السياسيين الذين أفلسوا البلاد!
إذن إلى أين من هنا؟
لا يكفي الحديث عن أن الطريق الاقتصادية باتت تقود إلى الذعر، إن لم نقل إلى الجحيم، بعد عمليات «الكابيتال كونترول» التي حددت للمودعين سحب 300 دولار من مدخراتهم في الأسبوع، ومنعت التحويلات إلى الخارج، وبعد ارتفاع المخاوف المحقة من الاتجاه إلى ما يسمى «هير كات» أي الاقتطاع من الودائع.

 


ولا يكفي الحديث عن أن الطريق السياسية تقود إلى مزيد من التعقيد، وخصوصاً بعد انفجار التراشق العنيف بين عون ورؤساء الحكومات السابقين الذين يتهمونه تكراراً بالقفز فوق الدستور، ومحاولة العودة إلى ما قبل اتفاق الطائف، عندما كان رئيس الجمهورية يعيِّن الوزراء ويختار لهم رئيساً، وهو ما بدا بعد استقالة الحريري، وعلى مدى 34 يوماً. ولكن قيل رداً على مطالبة عون شعبياً وسياسياً باحترام الدستور والدعوة إلى استشارات نيابية ملزمة: «إن رئيس الجمهورية يستخدم صلاحياته وحقه الدستوري، عبر ربط الاستشارات بالتكليف والتأليف، لتأمين عدم وقوع البلد في فراغ طويل»!
لكن الخلاف استمر حول هذا، منذ حاول التحالف بين عون والثنائية الشيعية، بعد إصرار الحريري على تشكيل حكومة اختصاصيين تلبية لطلب الانتفاضة، إقناعه بما يشبه الانتحار سياسياً، عبر دفعه إلى تأييد محمد الصفدي، ثم من بعده سمير الخطيب، وأن يعلن ذلك في بيان مكتوب، ويضمن موافقة المفتي ورؤساء الحكومات السابقين، وعلى أن يشارك في الحكومة.

 


بعد رفض الحريري الإغراءات والضغوط التي مورست عليه، للقبول بحكومة تكنو - سياسية برئاسته أو برئاسة غيره، تُبقي هيمنة «حزب الله» ضمناً على القرار السياسي في السلطة التنفيذية، بدا واضحاً أن تحالف عون والثنائية الشيعية - أي «حزب الله» و«حركة أمل» - يصر عليه أو على تأييده؛ لأنه يشكل في نظرهم: أولاً رافعة مفيدة على المستوى الاقتصادي، من خلال العمل لإحياء مساعدات «مؤتمر سيدر»، وثانياً غطاء على المستوى السني المحلي والإقليمي، وخصوصاً في هذا الوقت الصعب؛ حيث يتعرَّض الحزب لأقسى أنواع الضغوط الخارجية، والعقوبات والتصنيف الإرهابي الأميركيين، وثالثاً لأن قبوله تشكيل حكومة تكنو - سياسية يساعد الحزب في تخطي مرحلة الانتفاضة، وما أفرزته من رفض متزايد للثنائية الشيعية في عقر دارها، من صور إلى النبطية إلى بعلبك، وخصوصاً أن هذا يأتي بالتوازي مع الاضطرابات الدامية في إيران، وكذلك في العراق؛ حيث أحرق المتظاهرون القنصلية الإيرانية في النجف ثلاث مرات، وهم يصيحون: «إيران برا برا» رغم القمع الدموي الذي تعرضوا له.

 


قبل تحديد عون يوم الاثنين موعداً للاستشارات النيابية، كان التراشق عنيفاً جداً بين رؤساء الحكومات السابقين ورئاسة الجمهورية، ففي بيان أصدره الرؤساء فؤاد السنيورة وتمام سلام ونجيب ميقاتي، جاء: «لقد هالنا الخرق الخطير لاتفاق الطائف نصاً وروحاً، كما هالنا الاعتداء السافر على صلاحيات النواب بتسمية الرئيس المكلف، من خلال الاستشارات النيابية الملزمة لرئيس الجمهورية بإجرائها وبنتائجها، والاعتداء على صلاحيات الرئيس المكلف، من خلال ابتداع ما يسمى رئيساً محتملاً للحكومة»!

 


عون رد ببيان اعتبر، كما يكرر منذ شهر، أن ما يقوم به من مشاورات لا يشكل خرقاً للدستور ولا انتهاكاً لاتفاق الطائف؛ متهماً رؤساء الحكومات السابقين بعدم إدراك ما كان سيترتب على الإسراع في إجراء الاستشارات من انعكاسات سلبية على الوضع العام والوحدة الوطنية!
ويأتي كل هذا بعد بيان الحريري الأسبوع الماضي، الذي اتهم عون صراحة بالإنكار المزمن للوضع الخطير الذي تمر به البلاد، سواء لجهة الانتفاضة الشعبية ومطالبها المحقة بتشكيل حكومة من الاختصاصيين، وسواء لجهة الأزمة الاقتصادية الخانقة التي وضعت البلد على شفير الانهيار، وسواء لجهة محاولات اتهامه بالدلع وحرق المرشحين الآخرين، مؤكداً في رد صلب، أنه في مواجهة هذه الممارسات العديمة المسؤولية، يطرح شعار: «ليس أنا بل أحد آخر»؛ رداً على شعار عون المعروف: «أنا أو لا أحد» الذي تمسك به، وأوقع البلاد في فراغ رئاسي لمدة عامين ونصف!

 


الانتفاضة تأججت بعد ازدياد عدد المنتحرين بسبب العوز والفقر، رافضة ترشيح سمير الخطيب بعد الإعلان عن موعد الاستشارات، رافعة دائماً شعار: «كلن يعني كلن»، الذي بات يتردد الآن في بغداد، بمعنى ضرورة إسقاط كل الطقم السياسي الفاسد؛ لكن هناك الآن في أجواء السلطة والثنائية الشيعية من يطرح شعاراً معاكساً على خلفية من التحدي، وهو: «كلنا يعني كلنا داخل الحكومة»، وهو ما يتصل بما كان قد أعلنه النائب محمد رعد من «حزب الله»، من أنه ليس من مخرج سوى حكومة وحدة وطنية، أي استنساخ للحكومة الحالية، أو البقاء في حكومة تصريف الأعمال مدة طويلة، بما يعني إسقاط كل مطالب الانتفاضة، والإبقاء على السلطة التي يتهمها المنتفضون بالفساد ونهب المال العام، وفي وقت دخل فيه لبنان الإفلاس الحقيقي وخطر الانهيار التام.

 


صباح الخميس الماضي، علق فؤاد السنيورة على ترشيح سمير الخطيب بالقول: «إن شخصية الرجل وأخلاقه شيء، ولكن ملاءمته للمرحلة الاستثنائية الراهنة شيء آخر». وعندما سئل عن إمكان أن يسمِّيه في الاستشارات، قال: «يمكن التنبؤ بما يفعله العاقلون، أما الآخرون فهذا شأن آخر»، بما يعني ضمناً أن العاقلين ليسوا مع تسمية الخطيب!
وهكذا يبدو السؤال محيراً فعلاً:
من رحم أي أزمة ستولد الحكومة إن قُدِّر لها أن تولد؟ من الخلافات العاصفة بين الصف السني عموماً وبين تحالف عون والثنائية الشيعية؟ أم من محاولات كسر رأس الثورة وتشكيل حكومة تكنو – سياسية، في وقت تضاعف فيه الهياج الشعبي بعد انتحار جورج زريق حرقاً، لعجزه عن دفع قسط ابنته في المدرسة، وانتحار ناجي فليطي شنقاً، لعجزه عن شراء منقوشة زعتر لابنته ثمنها ألف ليرة، وانتحار داني أبو حيدر الأربعاء، لعجزه عن إعالة أسرته، وانتحار مواطن رابع يوم الخميس، بعد محاولة مواطن آخر في عكار حرق نفسه لضيق ذات الحال؟

 


مسلسل المواعيد المتتابعة التي حُددت للكتل في الاستشارات، بدا واضحاً أنه يضع رهاناً أخيراً على موافقة الحريري؛ لكن بدا أنه من خلال إبقاء تحالف الكتلة النيابية العونية الشيعية، أي 42 نائباً، إلى نهاية الاستشارات، يُراد ضمان بقاء إمساك المبادرة بيد عون، لقذف الكرة في اتجاه الحكومة التي تناسب التحالف المذكور.
ولكن ماذا نفعل بالثورة؟ وماذا نقول للمنتفضين؟ وكيف نواجه وحش الإفلاس الذي يطبق على البلد، الذي ينتحر المواطن فيه لعجزه عن شراء منقوشة، ويتدافع الناس في المصارف لسحب 300 دولار من جني أعمارهم، في وقت تتنافس فيه محطات التلفزيون في عرض مسلسلات من الفضائح التي لا تصدق، عن السرقة والنهب في دولة فالتة، وصل دينها إلى مائة مليار دولار، بينما تجاوزت المبالغ التي نهبها معظم السياسيين 320 ملياراً من الدولارات، تقول مصارف أوروبية إنها مودعة فيها؟