قبل أن ينفجر النظام الإيراني في ثورة الغضب والتهديد، بعد مقتل قاسم سليماني، تعمّد الرئيس ترمب أن يدلي بتصريح بدا كرسالة ضمنية موجهة تحديداً إلى المرشد علي خامنئي: «تكراراً نحن لا نريد تغيير النظام الإيراني بل تغيير سلوك.

 


إن إيران لم تكسب حرباً يوماً، لكنها كسبت كل المفاوضات»، كان ذلك تهديداً واضحاً من مغبة أن ينزلق النظام الإيراني إلى حرب واسعة ضد القواعد والمصالح الأميركية في المنطقة، وتلويحاً ضمنياً أيضاً بأن الولايات المتحدة تدعو إيران تكراراً إلى مفاوضات على اتفاق بديل عن الاتفاق النووي الذي ألغاه ترمب في 8 مايو (أيار) من عام 2018.

 


ليس خافياً أن سليماني كان الرجل رقم 3 في النظام الإيراني، بل قيل إنه كان مشروع رئيس إيراني جديد، ثم إنه مهندس استراتيجية التوسع والهيمنة الإيرانية في الإقليم، والقائد الفعلي لتصدير الثورة عبر الأذرع الإيرانية وتنظيماتها المسلحة، والمخطط والمشرف على كل سياسات التدخل في الشؤون الإقليمية، من صنعاء إلى بيروت مروراً بالعراق وسوريا، ولطالما قيل إنه يشرف على تنفيذ سياسة طهران لزعزعة الاستقرار في المنطقة.
لهذا بدا مقتل سليماني كأنه سيشعل حرباً أميركية إيرانية في العراق والمنطقة، خاصة أن مقتله جاء بعد القصف الأميركي القوي على مراكز «الحشد الشعبي»، حيث قُتل 29 وجُرح أكثر من خمسين، بينهم خبراء إيرانيون في إطلاق الصواريخ التي أدت إلى قتل متعاقد أميركي وجرح ثلاثة جنود.

 


خلال الأيام المتوترة جداً التي سبقت اغتيال سليماني، لم يقرأ الإيرانيون جيداً معنى الكلام الغاضب والحازم، الذي قيل في واشنطن عن أنها لن تسمح بتكرار مأساة مقتل السفير الأميركي كريستوفر ستيفنز، يوم حوصرت سفارتها في بنغازي في 22 سبتمبر (أيلول) من عام 2012 وضُربت بالصواريخ، وهكذا عندما اتصل الرئيس دونالد ترمب بعادل عبد المهدي، مهدداً بعقوبات قوية، إذا لم تنسحب جماعة «الحشد الشعبي» الذي تديره إيران من مداخل السفارة الأميركية في بغداد، انسحب البعض وبقي من يشعل النار في مداخل السفارة ويسعى لاقتحامها، وقد وزعت واشنطن صوراً لقاسم سليماني وأبو مهدي المهندس مع الذين يحاصرون السفارة.
وقبل أن تقوم إيران بقصف صاروخي على قاعدتي أميركيتين في عين الأسد وأربيل رداً على مقتل سليماني، جرى تهديد وتراشق بالأرقام بين البلدينح طهران قالت إنها ستقصف 13 هدفاً أميركياً، ورد ترمب بأنه سيقصف 52 هدفاً حتى ثقافياً في إيران، مذكّراً بعدد الرهائن الذين احتجزهم الإيرانيون في السفارة الأميركية في طهران في 4 نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1979 بعد ثورة الخميني، ووصل الأمر حتى إلى التذكير بنسف السفارة الأميركية في بيروت في 18 أبريل (نيسان) من عام 1983 حيث قُتل 63 شخصاً!

 


وعلى امتداد خمسة أيام، بدت المنطقة على شفير انفجار كبير، لأن طهران كانت توحي بأن الرد على مقتل سليماني سيكون كبيراً وتشارك فيه أذرعها العسكرية في المنطقة، خصوصاً عندما قال الرئيس حسن روحاني إن مقتل سليماني عملية قطع يد والرد الإيراني سيكون قطع رجل واقتلاع الوجود الأميركي في المنطقة كلها.
ومرة جديدة رد الأميركيون، يوم الثلاثاء الماضي، بعرض قوة جوي بعنوان «مسيرة الفيل» شاركت فيه 52 مقاتلة من طراز «f - 35A» أكثر المقاتلات تطوراً في العالم، في وقت نشر موقع «فوكس نيوز» جردة تفصيلية عن حشد بحري وصاروخي أميركي ضخم يتجه إلى المنطقة، التي بدت كأنها تقف على فوهة بركان، خصوصاً مع الغضب الإيراني الذي رافق تشييع سليماني، ذلك أن مقتله بدا بالنسبة إلى المراقبين كأنه المدخل الفعلي لعملية قطع رأس النفوذ الإيراني في المنطقة كلها.

 


فجر الأربعاء الماضي، تساقط 22 صاروخاً إيرانياً أُطلقت من كرمنشاه على قاعدتي عين الأسد وأربيل، وفي حين كانت وسائل الإعلام الإيرانية تتحدث عن سقوط 80 قتيلاً أميركياً، قال ترمب بكل بساطة: «كل شيء على ما يرام ولم يصَب أحد من جنودنا». ورغم أن خامنئي قال: «لقد وجهّنا صفعة قوية إلى أميركا وإن هذا بداية والرد ليس كافياً، إلا أن تصريحات المسؤولين الإيرانيين الآخرين جاءت لتوحي بأن عملية الرد لم تكن أكثر من إبرة لتنفيس الوضع المحتقن بشدة، فالحديث عن 80 قتيلاً أميركياً وكذلك تصريحات خامنئي عن الصفعة غير الكافية، بدت كأنها موجّهة إلى الداخل الإيراني.

 


هذا في حين توالت التصريحات المناقضة تماماً، فبعد أقل من ساعة جاء تصريح محمد جواد ظريف ليقول إن إيران انتهت من الرد وإنها لا تسعى إلى التصعيد أو الحرب، في حين قال متحدث باسم الحكومة إن طهران لا تسعى إلى الحرب وإنها تشكر «الحرس الثوري» على «العملية الناجحة»، لكنها ستردّ رداً ساحقاً على أي عدوان وإن لديها 140 هدفاً للأميركيين وحلفائهم في المنطقة في مرمى الصواريخ. وحين كان ترمب يكرر القول إنه لم يسقط أي قتيل وإن بعض الصواريخ لم تصل حتى إلى أهدافها، كان رئيس هيئة الأركان العامة اللواء محمد باقري، يحذّر من تداعيات محتملة إذا ردت أميركا على القصف، في حين قال وزير الدفاع أمير حاتمي، إن إيران سترد في شكل متناسب على أي عمل عسكري أميركي جديد رداً على الهجمات الصاروخية، بمعنى أن الأمر انتهى هنا!

 


«الحشد الشعبي» الذي قال: «انتهى دور الرد الإيراني وجاء دورنا»، أطلق فجر الخميس الماضي، صاروخين على محيط السفارة الأميركية في بغداد، التي كانت تفيض فجأة بتصريحات المسؤولين، من برهم صالح إلى عادل عبد المهدي إلى محمد الحلبوسي، معلنةً الاعتراض على إيران لعدم احترامها سيادة وحرمة الأراضي العراقية، ومحذّرة من أن يتحوّل العراق ساحة للصراع الإقليمي، وهو طبعاً ما يعطي طهران ذريعة وتغطية، بالزعم أنها تحترم السيادة العراقية وعليها أن تمتنع عن التمادي في الرد!

 


صباح الخميس، لم يكن أحد في حاجة إلى تصريح ترمب عن أن إيران عبر الضربة المحدودة جداً التي نفّذتها، بدت أنها تخفف من حدة موقفها بعد التلويح بانتقام قاسٍ، فقد سبقه «الحرس الثوري» عندما قال إنه «تم تنفيذ الثأر لمقتل قاسم سليماني، وإن الرد الصاروخي الإيراني لم يكن بهدف قتل الجنود الأميركيين بل الإضرار بالآلة العسكرية الأميركية، وإن الرد هو بطرد أميركا من المنطقة».
ولعل هذا ما يؤكد تصريح نائب الرئيس مايكل بنس، بأن واشنطن حصلت على معلومات استخبارية تكشف أن النظام الإيراني طلب من الميليشيات المسلحة عدم مهاجمة المصالح الأميركية أو التعرّض لها، بينما كان الزعيم الشيعي مقتدى الصدر يعلن أن الأزمة انتهت، داعياً الفصائل المسلحة إلى وقف أي هجمات ضد الأميركيين، بعد إطلاق الصاروخين على محيط السفارة!

 


انتهى الاحتقان لكن إلى أين من هنا؟
من المبكّر استعادة المثل القائل «اشتدي أزمة تنفرجي»، لكن هذا لا يمنع قط من التساؤل عما إذا كانت الصواريخ الإيرانية بعد مقتل سليماني، ستفتح كوّة للعودة إلى المفاوضات بعدما كرر ترمب أنه لا يريد تغيير النظام بل تغيير سلوكه، وأنه مستعد للتفاوض دون شروط مسبقة.

 


هنا تؤكد تقارير دبلوماسية غربية وصلت إلى بيروت في الساعات الماضية أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ينظر إلى مسار هذه التطورات، كأنها يمكن أن تتحوّل فرصة تساعده على استئناف وساطته السابقة، أو على الأقل الإعداد لهذا بانتظار أمرين: أولاً أن يتجاوز الإيرانيون حماوة الموقف وحراجته، وثانياً أن تنتهي الانتخابات العامة الإيرانية التي ستُجرى في فبراير (شباط) المقبل... فهل تتجه الأمور من الصواريخ إلى المفاوضات؟