مرت الأعياد بلا هدايا سياسية في لبنان، ورغم أن تشكيل الحكومات، بغضّ النظر عن شكلها وكفاءة وزرائها، ليست من الهدايا في أي بلد يحترم قواعد الديمقراطية والتمثيل العام، فإن الرئيس عون لم يتردد في القول عندما صعد إلى بكركي في عيد الميلاد، إن الحكومة الجديدة ستكون هدية الأعياد!

 


ومرّ العيدان أي الميلاد ورأس السنة، ولم تصل تلك الهدية العظيمة ملفوفة بالورق الملوّن تفتحها العائلة اللبنانية بفرح وحبور، لا بل ظلت قصة ولادتها ملفوفة بالعُقد والشروط والشروط المضادة، واستمرّ الحديث عن ولادة قيصرية لها، رغم أنه بات واضحاً منذ تكليف الدكتور حسان دياب تشكيل الحكومة، أنها ستكون حكومة اللون الواحد رغم تكراره مراراً التمسك بتشكيل حكومة اختصاصيين وتكنوقراطيين.
كان تصريح عون في بكركي مفاجئاً عندما قال: «إن الحكومة لن تكون تكنوسياسية بل حكومة اختصاصيين»، لكن بعد ساعات قليلة جاءه الجواب من «حزب الله»، عندما قال محمد فنيش وزير الشباب والرياضة في الحكومة المستقيلة إن «الحكومة المقبلة في حاجة إلى غطاء سياسي، وعليه فإننا ندعو إلى مشاركة واسعة من الجميع»، في وقت بات من الواضح أن تيار المستقبل لن يشارك في الحكومة ولن يعطيها الثقة في البرلمان، وكذلك موقف الأستاذ وليد جنبلاط و«اللقاء الديمقراطي» وكذلك موقف «القوات اللبنانية».

 


ما معنى القول إن الحكومة في حاجة إلى غطاء سياسي، سوى أنها ستخرج من رحم الأحزاب والقوى السياسية المعروفة، أو أنها ستكون عملياً تحت الوصاية السياسية لهذه الأحزاب، والدليل ذلك الجدل الذي يدور منذ عشرة أيام حول استحالة إيجاد وزراء ليس عليهم بصمات أو ظلال سياسية وحزبية، وقد بدا من الواضح من خلال بعض التسريبات التي تتعلق بأسماء وزراء محتملين في الحكومة العتيدة، أنهم يَرشَحون سياسية وحزبية، لا بل بات واضحاً أن هناك قتالاً يدور حتى في كواليس جماعة الثامن من آذار حول الحصص والحقائب، بعدما حمل الرئيس المستقيل سعد الحريري على الوزير جبران باسيل صهر عون قائلاً إنه لن يتعاون بعد اليوم «مع باسيل الطائفي والعنصري» متهماً إياه بالسعي إلى إدارة البلد، في حين غرّد الوزير السابق سليمان فرنجية قائلاً إنه حتى الآن طبخة الحكومة تُظهر أنها حكومة ظاهرها مستقل وباطنها مرتبط بباسيل، حكومة تضمّ مستقلين تاريخهم تسويات مع أصحاب النفوذ والسلطة وسياسيين مشهود لهم بالتقلّب.

 


وفي حين يتمسك دياب دائماً بتكرار التزامه تشكيل حكومة من الاختصاصيين، بدا الإعلان عن أنه اجتمع في الأسبوع الماضي مع عدد من رموز الثورة المندلعة منذ 79 يوماً، كأنه محاولة للتعمية أو للالتفاف، بهدف زرع الانقسامات في صفوف الثوار الذين يرفضون أي اتصال معه، ويستمرون في رفع الشعارات التي تدعو إلى قلب الصفحة الفاسدة من الكتاب السلطوي السياسي، والدعوة إلى تغيير كل هذا الطاقم من السياسيين والزعماء الذين أوصلوا البلاد إلى الجوع والانهيار.

 


في غياب التأييد السني لدياب وحكومته العتيدة، ومع الرفض الجنبلاطي والقواتي الحاسم لحكومة اللون الواحد، التي من الواضح أنها ستكون واقعة تحت سيطرة «حزب الله»، رغم الحديث عن أن التحالف بين عون والتيار الوطني الحر من جهة وبين الحزب وحركة «أمل» من جهة أخرى، لا يعني أنها ستكون حكومة يديرها حزب الله، فقد جاء تصريح علي ولايتي مستشار المرشد الإيراني خامنئي، الذي رحّب بتكليف دياب تشكيل الحكومة، والذي حمل في الوقت عينه على الانتفاضة اللبنانية، معتبراً أن قوى خارجية ضالعة في تحريكها، وهو الاتهام الذي سبق أن ساقه أيضاً حسن نصر لله، ليؤكد تماماً أن الحكومة العتيدة هي حكومة اللون الواحد التي ستعجّل في إفلاس لبنان وانهياره، لأنه بطبيعة لونها السياسي لا يمكن أن تحصل على أي مساعدة أو دعم لا من الدول الخليجية ولا حتى من الدول الغربية المانحة.

 


وفي هذا السياق، كان من المثير أن يعلن نائب وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى جوي هود، قبل أسبوعين، أن إيران وعلى غرار تدخلها في السياسات الداخلية العراقية تتدخل في السياسة اللبنانية، وأن على المسؤولين في بيروت استيعاب رسالة الشارع، ومن الواضح أن هناك أكثر من 11 مليار دولار تنتظر، ولكن لا توجد حكومة غربية مستعدة لإنقاذ لبنان إذا لم يستوعب المسؤولون دعوات الشارع المنتفض.
وعندما قال وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إن الوضع المالي في لبنان خطير جداً وسنرى تشكيل الحكومة قبل الاستجابة لطلبات الدولة، كان المسؤولون في هذه الدولة منهمكين في محاولات تمزيق الشارع وإحباط الثورة، وفي الإصرار على تشكيل حكومة تقع تحت سيطرتهم السياسية بالتعاون مع «حزب الله»، سواء سُميت تكنوسياسية كما قيل سابقاً، أو حكومة اختصاصيين كما يقول دياب الآن، فيرد عليه الثنائي الشيعي، لكنها حكومة تحتاج إلى ثقة مجلس النواب بما يعني أنها تحتاج إلى غطاء سياسي كما قال محمد فنيش، والغطاء يعني أنها ستولَد من رحم التحالف بين عون والتيار الحر والثنائية الشيعية.

 


وسط كل هذا يبدو أن المسؤولين في كوكب والشعب اللبناني الثائر في كوكب آخر، يلتهون في اقتسام الحكومة وحصصها والمقاعد، في وقت يقول وليد جنبلاط إن لبنان واصل إلى مجاعة، بعدما كان قائد الجيش العماد جوزيف عون قد أعلن في بيان قبل أسبوعين رداً على محاولات إجهاض الثورة عبر هجمات مؤيدي «حزب الله» وحركة «أمل»، أن الجيش استطاع امتصاص كل المحاولات الممنهجة لتفجير الوضع الأمني، لكنّ هذا لا يعني الاستمرار في تضييع الوقت في السياسة، لأن الأوضاع المعيشية تنذر بما هو أخطر، وعند خروج الطبقة الفقيرة بسبب الانهيار الاقتصادي، لن تكون أي معالجة أمنية قادرة على ضبط الوضع، ولن يكون الجيش قادراً على القيام بمهامه لأنه لن يواجهه هؤلاء «احذروا ثورة الجياع».

 


لكن المسؤولين انهمكوا في ترتيب الحصص والألوان في حكومة لا يملك دياب سوى القول إنها ستكون وجه لبنان وحكومة اختصاصيين، في حين يبرز وجه لبنان الحقيقي الراهن في أمكنة وتصريحات أخرى، فها هو وزير المال علي حسن خليل، يبشّر اللبنانيين بأن عجز ميزانية العام المنصرم 2019 أكبر بكثير مما كان متوقعاً، وأن «لدينا أرقاماً مقلقة جداً، فقد تراجعت الإيرادات بنسبة 40%خلال ثلاثة أشهر، أي ما قيمته خمسة آلاف مليار ليرة، بما سينعكس تلقائياً على موازنة السنة الجديدة».

 


والمضحك المبكي أن وزير المال لم يتردد في اتهام البنوك اللبنانية بحبس رواتب الموظفين، في وقت لم يعد غائباً عن ذهن أحد، أن المسؤولين السياسيين في لبنان جعلوا من القطاع العام وحشاً يلتهم القطاع الخاص، ليس بدليل التراشق بتهم الفساد وإجماع السياسيين على أن البلد منهوب فحسب، بل بدليل بسيط يشكل مؤشراً مهماً، فلقد طلب الحريري قبل أن يستقيل من الوزارات والإدارات، تزويده بعدد موظفيها خلال أسبوعين، ولكن الدولة حتى هذه اللحظة لا تعرف عدد موظفيها، ولا كيف ومن أين تدفع لهم الرواتب، التي باتت الآن مهددة بالتوقف ما سيؤجج الثورة.

 


تستمر طوابير الغاضبين أمام المصارف التي تمتنع عن إعطائهم أكثر من 300 دولار من ودائعهم، ويحلّق الدولار في السوق السوداء إلى ما يتجاوز ألفي ليرة بينما سعره الرسمي 1507 ليرات، وتهدد المستشفيات بالتوقف عن استقبال المرضى، ويصل عدد المنتحرين إلى ثمانية في خلال شهر بسبب العوز والفقر والجوع، وتنقل شاشات التلفزة صورة تختصر الوضع تماماً، عندما يركض مواطن ليسرق رغيف شاورما ويفر هارباً، فقد تجاوزت نسبة البطالة 55% منهم 30%تحت خط الجوع، وهناك 1000 مؤسسة تقفل شهرياً في حين تُبيّن الأرقام أن 560 ألف عائلة تعتاش من القطاع الخاص، ويقال للشعب استعدوا لمزيد من التقنين الكهربائي، بعدما كبّدت الكهرباء لبنان ثلث دينه العام، أي أكثر من 33 مليار دولار كانت كافية لإنارة قارة آسيا.

 


وعندما يدخل مواطن إلى المصرف حاملاً الفأس ومهدداً للحصول على حقه، ويسرق آخرُ رغيف شاورما، وينتحر ثالث لعدم قدرته على شراء منقوشة بألف ليرة لابنته، يكون لبنان فعلاً في أشداق المجاعة، والمسؤولون غارقون في البحث عن تركيبة حكومية من لون واحد لا تستطيع أن تحصل على فلس من المساعدات... فأبشروا!