يكثر الرهان حول تزعزع النظام الإيراني وربما انهياره بسبب العقوبات الدولية التي قيَّدته وحاصرته وشلت قدرته في تلبية ضرورات المجتمع، وبسبب انقسام النظام على نفسه وتحذير النافذين فيه من نهاية مأساوية للنظام تشبه نهاية الشاه نفسه، وبسبب انقسام المؤسسة الدينية وتزايد المواقف الدينية التي تعتبر ولاية الفقيه سلطة استبداد وطغيان، وأخيراً بسبب تعاظم الاحتجاجات الداخلية ووصولها مرحلة متقدمة كسرت فيها حاجز الخوف بالتظاهر العلني والتطاول الصريح على رمز النظام الأول بل والمطالبة بإسقاطه.

ما ذكرناه هي وقائع حقيقية لم يتمكن النظام الإيراني نفسه من تجاهلها أو إنكارها، إلا أنها رغم خطورتها وجديتها، لا يمكن اعتمادها مؤشرات أو علامات فعلية على سقوط حتمي وقريب النظام. وعلى الرغم من ترويج قوى المعارضة الإيرانية وبعض الدول العربية والغربية لهذه الوقائع، وعرضها بنحو مضخم أحياناً لغرض اعتمادها أدلة مباشرة على انهيار وشيك لحكم ولاية الفقيه، فإنه يمكن القول بأن مصدر قوة النظام ورهاناته على البقاء والاستمرار تقوم على اعتبارات تناسب طبيعته ومنطقه.  وهي اعتبارات مغايرة بالكامل للتقديرات والتقويمات التقليدية التي تعتمدها مراكز وأدوات التقصي والتحليل السياسي في العالم. أي علينا تلمس مؤشرات أخرى، والنظر في مكان آخر لمعرفة حال النظام ومكامن القوة والضعف فيه.

لو دققنا في المؤشرات الأربعة المذكورة أعلاه، لوجدنا أنها، وعلى العكس مما يعتقده الكثيرون، تخدم وتعزز الإستنتاج بأن النظام الإيراني ما يزال صاحب اليد العليا في إدارة أزماته والتحكم بها، وأن مخزون الصمود لديه ما يزال عالياً.

فالحصار الاقتصادي والعقوبات الدولية، استطاع النظام تحويلهما إلى قضية نضال وطني في الدفاع عن حق إيران بالاستخدام النووي السلمي والعلمي. فالنظام يجيد لعبة التغطية على الأزمات الداخلية واعتبارها ثانوية وربما تافهة وغير ذات قيمة، عبر تضخيم التحديات الخارجية وتصويرها على أنها قضية وجود ومعركة حياة أو موت للأمة الإيرانية. وهو أمر يقيم ملازمة بل مطابقة بين سياسة الولاء للوطن والولاء للنظام الذي يكفل صيانة القضايا الوطنية الكبرى، ما يسهل على السلطة تصنيف جميع المعترضين والمتذمرين بأنهم خونة أو متآمرون. بات التحدي الخارجي حاجة بقاء للنظام يتقن توظيفه وأدلجته وإسباغ وظائف مقدسة عليه، لتحقيق تسامٍ للنظام نفسه، ورفع رموزه فوق أية مساءلة أو محاسبة.

أما مظاهر الانقسام داخل النظام، فلا تتعدى من أن تكون تنافساً بين مؤسسات النظام على التحكم بموارد البلد والمشاركة في صناعة القرار، من دون أن يفقد النظام تراتبيته الصارمة ومركزيته الحادة، التي تبدأ بالولي الفقيه ثم تتدرج عبر مؤسسات النظام التي أنشئت على هامش أية عملية انتخابية أو مظهر ديمقراطي، أي مؤسسات بالتعيين وداخل حلقة النظام الأضيق، مثل مؤسسة تشخيص النظام وصيانه الدستور ومجلس الخبراء، إضافة إلى البنية الأمنية الحديدية التي تنحصر مهامها بحماية النظام من أي تهديد داخلي وخارحي مثل الحرس الثوري والباسيج.  وهي مؤسسات لا تتأثر في تكوينها أو عملها بأي تغير أو استياء في المزاج الشعبي، لأنها مستقلة وصاحبة اليد العليا فوق المؤسسات التي تتشكل عبر الانتخابات والاقتراع الشعبي مثل رئاسة الجمهورية ومجلس الشورى والمجالس البلدية.

إنها ميزة تفرد بها النظام الإيراني، بأن رسخ ثنائية حادة وفصلا قاطعاً بين مؤسسات الدولة التي تدبر شؤون المجتمع الحياتية، والتي يتحدد مسؤوليها الكبار غالباً عبر صناديق الاقتراع ، وبين مؤسسات النظام الممسكة بموارد البلاد ومفاصل الحياة العامة، بحيث تضمن لنفسها استمرارية وبقاءً مستقلاً عن أي مزاج أو استياء مجتمعي لأنها غير منبثقة منه، أي مؤسسات من خارج المجتمع ومن خارج الدولة معاً، وتملك سلطة التحكم بمجرياتهما في آن.  هي ثنائية حمت النظام نفسه من المجتمع وضمنت له البقاء وراء التقلبات السياسية الظاهرة، وأوقعت الكثيرين، وفي مقدمهم الولايات المتحدة، في فخ الاعتقاد الساذج بأن التأثير في مجريات الانتخابات الرئاسية الإيرانية ودعم الإصلاحيين سيشكل مدخلا لإحداث تغيير جذري في بنية النظام وبداية لتعزيز الديمقراطية في إيران. وهو اعتقاد لم يدرك أن المشهد الإنتخابي ليس إلا شكلا مبطناً من أشكال تطويع المجتمع الإيراني وتأطيره داخل دائرة تحكم النظام، ووسيلة ناجحة للنظام في إظهار ديمقراطيته.

أما انقسام المؤسسة الدينية على نفسها، فهو غير مؤثر بحكم عدم وجود مؤسسة دينية ذات تكوين هرمي أو بنيوي. فالانتظام الديني الشيعي يغلب عليه الطابع الشخصي، أي علاقة شخصية بين تابع ومتبوع اجتمعت فيه أهلية الاتباع (التقليد)، من دون أن ترقى هذه العلاقة إلى مستوى الانتظام الاجتماعي العام.  في حين نجح النظام الإيراني عبر نظرية ولاية الفقيه، في صياغة انتظام ديني يُسخِّر طاقة المذهب الإمامي التعبوية والوجدانية والطقسية لصالح النظام، بأن أقام تطابقاً بين الانتماء للمذهب والولاء للنظام ولرمزه الأول، بحيث لا تقتصر مخالفة الولي الفقيه على التشكيك بولاء الفرد الوطني، بل على التشكيك بصحة دينه ومعتقده. وهي وضعية انتظام ديني جديد أكثر فاعلية وتعقيداً عجزت المرجعيات التقليدية عن مقاومتها أو حتى منافستها، وفرضت عليها إما الانصياع لها أو الإندراج في شبكة مصالحها وقواها أو النأي بالنفس عن مواجهتها أو الوقوف في طريقها.

أما الاحتجاجات والتظاهرات الشعبية، فإن قدرة النظام على قمعها بسرعة فائقة مؤشر على قوة النظام وتماسكه لا مؤشراً على ضعفه أو انهياره الوشيك مثلما يظن البعض. فالنظام لا يستمد قوته وبقاءه من التأييد الشعبي، بل عمل لفترة عقود على إنشاء عناصر قوته بشكل منفصل عن المزاج الشعبي وميل المجتمع، بأن حصَّن نفسه ضد أي تحول مجتمعي، وعمد في الوقت نفسه إلى تعطيل قدرات المجتمع التضامنية والتعبيرية، بأن ألغى النشاط الحزبي، وضيق على منابر التعبير المستقلة غير التابعة أو الموالية للنظام، بل عمد إلى إلغائها جميعاً لتسود لغة النظام وخطابه وأيديولوجيته في نقل الأحداث وتحليلها وتفسيرها وفهمها. ما جعل الحراك المجتمعي ضعيفاً ومشتتاً ومتقطعاً ولا يظهر إلا في فترات زمنية متباعدة، ويضطر في كل مرة أن يبدأ من الصفر بعد نجاج النظام في تعطيل طاقته وتفكيك شبكة تضامناته، وتَقَصُّدُ القسوة المفرطة لترسيخ خُلُقية الخوف التي ما تزال الضامن الأول لبقاء أكثر أنظمة الشرق الأوسط.    

هل الإيرانيون في حالة انسداد الأفق لأي تغيير فعلي يعيد للمجتمع حيويته وللحياة السياسية شفافيتها وصلاحيتها التمثيلية الحقيقية؟ بالطبع لا، فالمجتمع هو صاحب القول الأخير في صناعة الواقع وتحويله. إلا أن المطلوب معرفة المكان الصحيح التي تصرف فيه دوافع المجتمع التغييرية، والحذر من أفخاخ الديمقراطية الجوفاء التي تستنفذ طاقة المجتمع وتتصنع مشهداً انتخابياً يرمي المجتمع في أحضان النظام نفسه مهما كانت نتائج الانتخابات.   ليست المشكلة في تغيير الوجوه والشخصيات أو فرض المجتمع من يمثله أو حتى في إرسال رسائل احتجاج قوية، فهذا كله لعب في ملعب النظام ووفق القواعد التي يتحكم بمجرياتها، بل بات التحدي في قدرة المجتمع الإيراني على اعتماد مشروعية اجتماعية وسياسية مضادة.