تذهب بعيداً في غربتها السياسية والفكرية، القيادة الإيرانية. وهي مثلما سعت طوال سنوات ماضية (ولا تزال) إلى «تصحيح» وضعها وعلاقاتها وتجاراتها ومصالحها مع الدول البعيدة والمقتدرة شرقاً وغرباً، فيما ذهبت وتذهب إلى ذرى غير مسبوقة في تخريب تلك الأطر (المادية) وفوقها الأطر الروحية المتصلة بـ«أمة» الإسلام، مع جيرانها القريبين العرب والمسلمين.. تذهب اليوم في شطط موازٍ إلى تحميل الخارج تبعات مآزق الداخل، والإمعان في ذلك باعتباره حقيقة لا تُجادَل!

ثم أكثر من ذلك: تذهب تلك القيادة إلى تحميل «رئيس» الجمهورية وفريقه وسياسته «الانفتاحية» على الغرب، ومراهناته على مردود إيجابي لتلك السياسة (التي أفضت إلى الاتفاق النووي!) مسؤولية الفشل في معالجة الأزمات المالية والمعيشية والتنموية التي كانت الشرارة المولّعة للحراك الراهن.. مع أنّ الغاشي والواعي، والغرّ والخبير، والصغير والكبير، والقريب والبعيد، والضحل والثقيل وغيرهم كثر، يعرفون يقيناً، أنّ تلك الأزمات هي وليدة شرعية لنهج عدائي مفتوح إزاء كل الخارج! ولطموحات فضفاضة أكبر من قدرة أصحابها على الوصول إليها وتحمّل أكلافها بما يوازن أسباب القدرة والتمكن ولا يجعلها على حساب كل شيء داخلي آخر.. وإنها في جملتها، أزمات منطقية لذلك الأداء غير المنطقي!

.. ومع أنّ الجميع يرى ويسمع بأنّ إرادة «المرشد» فوق كل إرادة. وإنه «القائد» الأوّل. وكلمته حاسمة. وحكمُه لا يُردّ. وقراره قاطع ولا يحتمل «التمييز».. وإن ذلك عنى ويعني تحجيم أدوار وخطط وسياسات ومشاريع السلطات التنفيذية و«رئيسها» المنتخب إذا كانت فيها شبهة المسّ بالموازنات الموازية الخاصة بـ«الحرس الثوري» و«دولته». أو فيها شبهة التفلّت من الاستراتيجية القائمة على استعادة أمجاد الامبراطورية، وأكلاف ذلك السعي.. أو محاولة الخلط بين «اقتصاد الدولة» و«اقتصاد الثورة» لمصلحة الأول وعلى حساب الثاني!

لم يكن منطقياً، ولن يكون، أن تئن الولايات المتحدة (وهي من هي) أو تتبرّم أو تسعى إلى «ضبط» مصاريفها الخارجية في موازنة هي الأضخم والأكبر من نوعها في التاريخ وتبلغ (للعام 2018) أربعة آلاف مليار دولار.. في حين تستمر إيران التي يبلغ حجم موازنتها (للعام 2018 أيضاً) نحو 314 مليار دولار في اعتماد سياسة تمددية وتوسعية خارجية، وأن تتشاوف في ذلك! وأن تصرّ على لغة «الإنجازات» و«الفتوحات».. وأن تؤكد بالأمس على لسان علي أكبر ولايتي (أحد مستشاري المرشد) بأنّها لن تعدّل في ذلك الأداء شيئاً، بل سترسّخه وتزيد عليه!

تشتكي القيادة الإيرانية، على الإدارة الأميركية في مجلس الأمن وتحمّلها مع بريطانيا والسعودية «مسؤولية» ما يحصل على مساحة ستين مدينة بينها طهران.. ثم تحمّل الفريق المسمى «إصلاحياً» برئاسة الشيخ حسن روحاني مسؤولية العجز عن إيجاد حلول للأزمات المتراكمة، ثم تتوعّد الرئيس (المحافظ) السابق محمود أحمدي نجاد بالمحاسبة مع مفعول رجعي.. ثم تفترض أن «مجاهدي خلق» تملك القدرة على تحريك الناس في الشوارع، وهو اتّهام أكبر من أقصى أحلام مريَم رجوي وأوهامها.. لكنّها، تلك القيادة في طهران، تتجاهل الحقائق والبديهيات، وتحاول رمي تبعات ما قرّرته هي، على غيرها في الداخل والخارج! مثلما تحاول إنكار استحالة الجمع الإيجابي بين نقيضين: الدولة والثورة!