لم يتغيّر الحال الإيراني ولا يبدو أنه آيل إلى ذلك التغيير، أقلّه في المدى المنظور تبعاً لاعتبارات السلطة وتركيبتها في طهران أولاً وأساساً.. ثمّ تبعاً للاستنفار التام الذي تفرضه الحرب الفاترة الدائرة رحاها مع الأميركيين برئاسة دونالد ترامب.

وهذه الحرب فيها كرٌّ وفرٌّ، لكن شروطها تستدعي التمسّك بكل أوراق «القوّة المُفترضة» حتى لو كانت حسابات أحد طرَفيها، أي الإيراني في الحالة الراهنة، تذهب باتجاه العمل على تفاديها أو استيعابها بالتي هي أسلم وأحسن!

هذه حرب لا تريدها إيران لكنها وصلت إليها بأدائها ونهجها.. وأوصلت الهاجمين عليها إلى زاوية مقفلة لا مخرج منها إلاّ بالمواجهة.. راهنت طويلاً على إتعاب الآخرين من خلال اعتماد تكتيكات غير سوية لكنها في المحصّلة أساءت تقدير الأمر استراتيجياً واصطدمت بالحائط..

في بعض النصوص المستعادة تذكير ببعض تلك التفاصيل الأدائية تبعاً لدوام الحال.

.. كان الأمر مسألة وقت فقط قبل أن يصل مشروع إيران في المنطقة العربية إلى الزاوية المقفلة التي لا تعني شيئاً آخر سوى الاصطدام بالحائط والفشل في اختراقه.

وكان الأمر مسألة وقت فقط، قبل أن يأخذ قانون البقاء مداه. حيث لكل فعل ردّ فعل موازٍ. وحيث يستحيل «الاستمرار» في ظلّ انكسار ذلك المبدأ أو في ظل دوام لعبة التهدئة في مواجهة التوتير. والاستيعاب في مواجهة الهجوم. والرهان على صمود «المشتركات» في وجه مَن ينفيها لصالح الفرادة المدّعاة أو الخصوصية المفترضة أو الإصرار على الاختلاف (المذهبي أساساً!).

استطرد أصحاب المشروع الإيراني في «اجتهاداتهم»! وافترضوا شيئاً قريباً من الوهم: الاستثمار في الوهن العراقي، و«التواضع» اليمني، والتعدّد اللبناني، والانهيار السوري. وفي الافتراض العمومي، بأن الجانب العربي في جملته يمرّ في أصعب مراحله وأكثرها هرياناً. وأن الانتفاضات والثورات التي سُمِّيت ربيعاً ليست في الخلاصة، سوى فرصة لا بد من انتهازها والبناء عليها والتوظيف في تفاصيلها وراهنها، خصوصاً أن تلك الوضعية المستجدّة طاولت مصر المؤثرة والمركزية والكبيرة. مثلما طالت ليبيا (الهامشية) وتونس «البعيدة». بعد أن كان المثال العراقي أول عناوين السقوط وأخطرها.

وقبل ذلك، كانت أحداث 11 أيلول 2001 شرارة تحوّلات زادت من الانحدار العربي العام الذي كان مشعشعاً أصلاً جرّاء تردّي محاولات تسوية النزاع مع إسرائيل على أسس غير عادلة وتعكس دوام ميلان الدفّة المؤثرة، دولياً (وأميركياً) صوب الجانب الإسرائيلي.. واستمرار ادّعاء العجز عن إنتاج شيء قريب من تلك التسوية التي تُعطي الفلسطينيين أقل من عشرين في المئة من أرضهم التاريخية. وتعيد إليهم الاعتبار والاعتراف بأنهم ضحايا وليسوا إرهابيين، وشعب تام قبل أن يكونوا لاجئين!

الانكسار الذي أصاب هذه المحاولة دلّ في الإجمال على أن الجانب العربي «أضعف» من أن يفرض حتى مسودة مشروع تسوية تليق بوصفها. وأعجز من أن يُنتج موقفاً إجماعياً يُؤخذ دولياً وأميركياً على محمل الجدّ والتأثير..

ثمّ «توّج» باراك أوباما إنكسار الميزان، وشرع في بلورة أخطر السياسات الخارجية في التاريخ الأميركي الحديث. وفي خلفية موقفه كانت 11 أيلول 2001 جاثمة بكل وطأتها باعتبارها نتاج «فكر» إسلامي أكثري ذاتي الدفع. أي من دون أي مقوّمات أو مسوّغات تتّصل بتراكم أشياء النكبة الفلسطينية بكل تفاصيلها وانعدام العدل فيها! ثم من دون المراجعة الذاتية (الأميركية) التي كانت لتفضي مثلاً إلى «ملاحظة» تشجيع أو دعم حركات الإسلام السياسي، في وجه القوميين واليساريين العرب قبل أفغانستان، ثمّ في وجه «السوفيات» في أفغانستان نفسها!

وخطورة باراك أوباما أنه كان اختصارياً ولا يريد أن يرى الأمور إلاّ بعين واحدة.. مع أن «الإرهاب» حسب التوصيف الأميركي، بدأ مع الإيرانيين وأتباعهم، في الوقت الذي كانت «القاعدة» ومثيلاتها في أفغانستان تتمتّع بتوصيف «المجاهدين»! ثمّ ركّب خلفية سياسته هذه على مُعطى انتهازي حسّاس وخطير هو الضرورة الحتمية لاحتواء المشروع النووي الإيراني بأي طريقة ممكنة، باستثناء الطريقة الصدامية العسكرية المباشرة.

«رأت» إيران المشهد بكليته وقرّرت أن الفرصة القائمة للانقضاض يجب أن لا تُفوَّت! وأن هذه هي اللحظة التاريخية الماسّية للشروع في تصفية الحسابات العالقة مع العرب منذ فجر الإسلام! وباسم الإسلام وقضايا شعوبه! ثم للشروع في مراكمة أوراق النفوذ وتوظيفها في المشروع المزدوج: الداخلي لتمتين سيطرة النظام وإطفاء أي جدلية تتّصل باستمرار «الثورة» برغم انتهاء أسبابها! والخارجي لإحياء إرث الشاه الخاص بدور «الشرطي» الذي لا يعني شيئاً آخر سوى الدور القطبي والمحوري بعد سقوط «الاتحاد السوفياتي!».

سيمضي وقت قبل أن يُفَسَّر محتوى الجموح الإيراني إلى لعب أدوار إقليمية ودولية أكبر من طاقات وقدرات وإمكانات جمهورية «الولي الفقيه»! وسيمضي وقت آخر قبل أن تُفَسَّر تلك المغالاة في تضخيم الذات عند أهل تلك الجمهورية! وابتعادهم بمسافات طويلة عن بديهيات هذا العالم! والتصاقهم بمدوّنة أوهام خاصة بهم ومحاولة تنفيذها بالقوّة وبآليات وطرق وأساليب و«تنظيمات» وحروب وفِتَنْ مُدمِّرة!.. ثمّ فحوى اعتقادهم الراسخ بأنهم يحتكرون الصلة بالذات الإلهية! وبأن نسج الصلة بالعالم الخارجي لا يختلف (كثيراً!) عن نسج قطعة سجّاد! وأن توليفة الصبر والإلهيات والمبالغات الذاتية، كافية لإتمام المُراد وتحقيق الإعجاز!

حكى الراحل هاشمي رفسنجاني مرّة عن مدى الوهن الداخلي الإيراني! وعن مدى الاستنزاف الذي تعاني منه «الثورة» المستدامة. وصولاً إلى إعلان «إفلاس» إيران بالمعنيَين المادي المباشِر والسياسي العام.. لكن صوته راح هباء وجرّ عليه غضب «المرشد» حتى وفاته.. وذلك في كل حال لم يغيّب حقيقة ما قاله خصوصاً أن الغرّ أو الجاهل أو المتجاهل وحده مَن ينكر أن «إنجازات» إيران الخارجية و«فتوحاتها» و«أنوارها» و«اقتدارها» المدّعى إنما بُنِيَت على أكتاف الغير! بحيث أن الأميركيين دمّروا نظام «طالبان» فدخل الإيرانيون وراءهم وشبكوا علاقاتهم مع الأقوام الشيعية فيها! ودمّر الأميركيون نظام صدام حسين والعراق معه فدخل الإيرانيون خلفهم وشبكوا ما شبكوا من علاقات مذهبية وسلطوية وميليشيوية.. وقبل ذلك ابتلي اللبنانيون بحربهم الأهلية ثم بالمواجهات مع إسرائيل ثمّ بتبخير سيادتهم على أيدي السوريين فدخلوا على كل هذا الحُطام وشبكوا ما شبكوا من علاقات، ليس «حزب الله» سوى أبرز وجوهها!.. حتى في سوريا: لولا الدخول الروسي الصاخب بعد خمس سنوات من القتال لراحت كل «استثمارات» إيران مع الريح!

لم يستطع ذلك «المشروع» أن ينفّذ أو أن يدّعي حيثية أو قدرة في أي موقع «سوي» أو «طبيعي» حيث الدولة المركزية قائمة ومتأهّبة. من البحرين إلى الكويت إلى السعودية إلى مصر وبعض دول المغرب العربي.. حتى في «الموضوع» الفلسطيني الأثير عندها لم تستطع تحرير شبر واحد من الأرض المحتلة.. و«الإمارة» التي قامت في غزة بُنيت على أرض حرّرها ياسر عرفات بالمفاوضات، مثلما أمكنه إنتاج الوضعية القائمة في الضفة الغربية!

.. ومع ذلك، تصمّ الآذان صيحات «الانتصارات» و«الإنجازات» و«الفتوحات» الصادرة عن إيران وأهل محورها في نواحينا! وستتصاعد وتيرتها في الآتي من الأيام للتغطية على تيقّن أصحابها بأن المرحلة العكسية بدأت! وأن السياسات الماضية انتهت! وأن هناك في «المنطقة العربية» والخارج الدولي مَن قرّر شيئاً آخر مختلفاً جذرياً عمّا سلف! وينطلق من اعتبار «المواجهة مصيرية»، وليس أقلّ من ذلك!