صعب الرهان على الأميركيين! أو الثقة بثباتهم عند مواقفهم السياسية والاستراتيجية المُعلنة إزاء المنطقة العربية والإسلامية وشعوبها! وصعب أكثر في الوقت نفسه الأخذ بهذه الفرضية واعتبارها من الثوابت واليقينيات!

دفع اللبنانيون غداة الاجتياح الإسرائيلي في العام 1982 أثماناً غالية جرّاء رهان بعضهم على دور مركزي لواشنطن يعوّض ويخفّض ثقل «الاحتلال» والفاتورة التي طلبتها تل أبيب مقابل إخراج منظمة التحرير الفلسطينية بكل فصائلها من مناطق سيطرتها التي كانت بيروت (الغربية) أحد أبرزها أو بالأحرى عاصمتها! وسبق أن دفع الفيتناميون المعادون لقوات هو شي منّه والجنرال جياب ثمن الانخراط في تحالف حياة أو موت مع الأميركيين.. ودفع الفلسطينيون الذين انخرطوا في أطول مفاوضات سلام من نوعها في التاريخ ثمن الرهان على صدقية واشنطن وثقلها في الضغط على إسرائيل للوصول إلى أو القبول بتسوية ما.. ولاحقاً دفع كثير من العراقيين شيئاً من الأثمان ذاتها عندما افترضوا أن الأميركيين لن يتراخوا أمام الإرهاب الذي طالهم تحت عنوان المقاومة ولن يتخلّوا عن برنامجهم السياسي العام في العراق أمام الهجوم الإيراني من الشرق والسوري الأسدي من الشمال والغرب.. وقبل الآن بقليل دفع الأكراد في الشمال والعرب في الجنوب العراقيين ثمن تصديق مواقف جورج بوش الأب من صدام حسين في «الانتفاضة الشعبانية» الشهيرة التي تلت اندحار صدام من الكويت.. والآن، في هذه الأيام (المجيدة!) يدفع أكراد سوريا أو يكادون، أثمان وضع كل بيضهم في سلّة الوجود الأميركي في شرق الفرات! وقبلهم ومنذ أيام السيئ الذكر والصيت باراك أوباما إلى الآن، تدفع المعارضة السورية بالنيابة عن عموم السوريين أثمان نكوص الإدارة الحاكمة في واشنطن عن تقديم المساعدة الكافية، أو السماح بتقديم المساعدة الكافية لإتمام الثورة على نظام المافيا الفئوية العائلية الأسدية!

وأكثر من ذلك (؟!) دفع عموم العرب وأهل الخليج العربي واللبنانيون والسوريون والعراقيون أثمان حسابات باراك أوباما الإيرانية.. بما سمح لطهران وأولياء الأمر فيها بالذهاب في غلوائهم التبليغي والتبشيري السياسي والديني إلى حدود البلاء التام.. وبما سمح بإدّعاءات امبراطورية وصلت في أوهامها إلى حدّ التجرؤ على القول والإعلان (والتصرف!) بأن «دولة الولي الفقيه» هي التعويض عن دور الاتحاد السوفياتي الراحل في جبه الأحادية الأميركية! وإعادة التوازن القطبي والمحوري مع الولايات المتحدة! وجرى ذلك من دون رفّة جفن واحدة! ومن دون أي استدراك يمكن أن تفرضه حقيقة أن هناك دولة اسمها الصين مثلاً، أو روسيا الاتحادية مثلاً، وأن هاتين الدولتين بإمكانياتهما وقدراتهما الفعلية والحقيقية وليست المُفتعلة والمدعاة، لا تزالان إلى اليوم تحاذران الاصطفاف التام بطريقة تستفز الأحادية الأميركية تلك! أو تدفعان أحداً إلى الأخذ بجدّية تامة قصّة إحياء عالم القطبين أو المتعدّد الأقطاب.. أو حتى ما دون ذلك بكثير!

المشكلة في جانب منها تتعلق بالادّعاءات والطموحات والتوهّمات الإيرانية! لكنها في الجانب المركزي الموازي والأثقل (ربما؟) تتعلق بالسياسات الأميركية، المتقلقلة والمتحوّلة والمبنية على أسس لا تبدو ثابتة ولا راسخة ولا دائمة.. وكأن كل معارك الحرب الباردة انتهت في جملتها لمصلحة الغرب والأميركيين ولم تعد هناك حاجة للاستراتيجية التي أوصلت إلى تلك النتيجة.. وحدها إسرائيل كانت ولا تزال ويبدو أنها ستبقى، ثابتة وحيدة في المخيال الأميركي بكل مندرجاته! ولا شيء يُعدّل في هذه الوضعية على الإطلاق! وفي الواقع، لا شيء عدّل فيها حتى لو كان ذلك انهيار الامبراطورية السوفياتية على وسعها من مركزها إلى أطرافها، ومن أميركا الجنوبية إلى جنوب شرق آسيا إلى قلب أوروبا العجوز!

بهذا المعنى يمكن الاستطراد والاستنتاج بأن ما يحصل أميركياً إزاء إيران و«قضيتها» ليس أمراً بسيطاً أو يمكن البناء عليه وفق سردية ثابتة.. جاء دونالد ترامب ونسف «كل» سياسة سلفه الخبيث أوباما! ويمكن بالتالي، أن يذهب ترامب غداً، وتذهب معه «كل» سياساته! وهذا استنتاج خطير (إذا أمكن!) وخطورته مضاعفة: عندما كانت الحرب الباردة مشتعلة في ذروتها، «ترك» الأميركيون معارك كثيرة فيها وهجّوا! فكيف الحال اليوم، والدنيا تدور مثل الكرة، ولا ترسو على برّ وتميل مثل رقّاص الساعة؟! وكيف فوق ذلك، يمكن الركون إلى موقف أميركي رئاسي أو غير رئاسي طالما أن تغريدة تعلنه وأخرى تنسفه؟! وطالما أن الرئيس يعلنه بطريقة معينة صباحاً ثم يعدّله بطريقة معاكسة بعد الظهر؟! ثم يخرج وزير أو مسؤول في الخارجية ويفسّره بشكل مغاير لتفسير وزير أو مسؤول في وزارة الدفاع أو «البنتاغون»؟! ثم يدخل على الموضوع «توضيح» من البيت الأبيض ذاته.. وبعده يخرج من المكان عينه شيء آخر يوضّح التوضيح من شخص مسؤول آخر غير «المسؤول» الأول؟! وهكذا دواليك من الضنى الذي يدوّخ القرود ذاتها! ويولّد الانطباع المرير بأن الدنيا، دنيانا في ديارنا تحديداً، صارت تشبه السيرك المفتوح على كل أنواع التهريج! وأن مصائر حقيقية وفعلية وملموسة لمئات الألوف بل للملايين من البشر صارت أسيرة تسطيح وعشوائية وتخبّط ورعونة وخفّة قاتلة! وأن الناس، عناوين ومواضع النكبات المفتوحة بهمّة المشروع الإيراني أولاً، صاروا يقيسون أحوالهم المصيرية (المصيرية) تبعاً لخبر سريع وليس استناداً إلى استراتيجية واضحة وثابتة! وتبعاً لتصريح وليس لسياسة! وتبعاً لموقف عابر وليس لمبدئية مكينة!

.. يريد مايك بومبيو وزير الخارجية الأميركي (حتى الآن؟) أن يشحذ الهمم والمواقف أكثر فأكثر في وجه البلاء الإيراني الطافح في عموم ديار العرب والمسلمين! لكن مَن يضمن شيئاً في واشنطن نفسها قبل ضمان المواقف الخارجة من واشنطن؟! ومَن يضمن دوام تلك المواقف قبل ضمان دوام أصحابها؟! ومَن يضمن استمرارية اليقظة الأميركية الراهنة إزاء المخاطر التي تُهدّد الحلفاء والمصالح (والاقتصاد العالمي برمّته في الواقع) طالما أن أضواء تلك اليقظة خافتة حتى في قلب أوروبا الحليفة؟! وطالما أن ما يحصل داخل مكوّنات النخبة الأميركية برمّتها وصل إلى شيء سوريالي بالتمام ولم يكن ليخطر على بال أفحل كتّاب سيناريوات هوليوود: إلى بدء «التحقيق» في «خدمة» (أي عمالة؟؟!!) الرئيس الأميركي للمصالح الروسية!

سوريالية الأمر وفظاعته لا تُغيّبان حقيقة قائمة هي أن التصدي (الدفاعي) لإيران وبلائها ومصائبها كان قائماً قبل ترامب ومعه وبعده، وغصباً عن أوباما وخبثه، وسيبقى قائماً طالما أن أولياء الأمر في طهران مستمرون في أوهامهم المدمّرة!