تتزامن اللقاءات التي بدأتها القيادة السعودية مع مجموعة من القيادات اللبنانية التي بدأت تتقاطر الى مدينة جدة، مع الذكرى الـ28 لتوقيع النواب اللبنانيين «وثيقة الوفاق الوطني» المعروفة بـ«اتفاق الطائف»، كاشفة عن ملامح «إتفاقات طائف» مماثلة بدأت الأزمات السائدة في المنطقة الدخول في مداراتها، في ضوء التقاطع الاميركي ـ الروسي الدافع في اتجاه تسويتها
 
 
 

واللافت انّ لقاءات القيادة السعودية ممثلة بولي العهد ووزير الدفاع الامير محمد بن سلمان تعقد في مدينة جدة، وهي المدينة التي انتقل اليها النواب اللبنانيون من مدينة الطائف، حيث انعقد مؤتمرهم ووقّعوا «اتفاقهم الطائفي» (نسبة الى الطائف المدينة)، للقاء الملك الراحل فهد بن عبد العزيز في «قصر السلام» على شاطئ البحر الأحمر، وليتلو وزير الخارجية السعودي الراحل الامير سعود الفيصل على مسامعهم بيان اللجنة الثلاثية العربية الذي تضمّن روزنامة البدء بتنفيذ الاتفاق بدءاً بانتخاب رئيس جمهورية جديد وتشكيل حكومة جديدة واستكمال عدد نواب المجلس النيابي الذي زاده الاتفاق من 99 نائباً الى 108 نواب بالتعيين، وقد ارتفع هذا العدد ليصبح 128 نائباً في أوّل انتخابات نيابية جرت عام 1992 بعد انتهاء الحرب ودَسترة «الطائف» .

على انّ استكمال تطبيق «اتفاق الطائف» وتصحيح ما نفّذ منه من بنود لا يغيب عن اللقاءات اللبنانية ـ السعودية، وذلك تأسيساً على الدعوات المتواصلة وشبه اليومية سعودياً ولبنانياً وعربياً ودولياً لهذه الغاية، وفي ظل تأكيد الجميع حرصهم على هذا الاتفاق، والاعتراف الدائم للمملكة العربية السعودية من خصومها قبل حلفائها، ومن عرّابي الاتفاق، بدورها الاساسي في تحقيقه وإنهاء الحرب الاهلية في لبنان، خصوصاً انّ المسوؤلين السعوديين، رفعوا في بداية مؤتمر الطائف وبلسان الأمير سعود الفيصل شعار «الفشل ممنوع» الذي فهمه النوّاب يومها على أنه «رسالة ملكية» مفادها انه ممنوع عليهم مغادرة المملكة من دون التوصّل الى اتفاق يُخرج لبنان من حال الحرب الى السلام، فكان هذا الاتفاق.

على انه عندما كُشِف عن اللقاءات التي بدأتها القيادة السعودية مع مسؤولين وقيادات سياسية لبنانية سادَ لدى البعض انطباع مفاده أنّ هناك اتجاهاً لدى المملكة العربية السعودية الى «التصعيد والتسخين» سياسياً في لبنان، ولكن تبيّن لزوّار المملكة إثر اللقاءات الأولية التي تمّت (وشملت رئيسي حزبي «القوات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع و«الكتائب» النائب سامي الجميّل) ومن خلال المناخات التي تسبق اللقاءات الأخرى المنتظرة في الايام والاسابيع القليلة المقبلة، انّ الإتجاه الأساس لدى المملكة في هذه المرحلة هو الحفاظ على الاستقرار في لبنان والالتزام بسياسة «النأي بالنفس»، وهي تعتبر انّ الاستقرار اللبناني يشكّل الاولوية دائماً، ولا حاجة إطلاقاً لتحويل لبنان ساحة ساخنة على غرار الساحات الأخرى، خصوصاً انّ التعقيدات اللبنانية المتصلة بالتنوع اللبناني الطائفي والمذهبي قد تُدخِل لبنان في حروب تؤدي الى تسعير المواجهات في المنطقة بدلاً من احتوائها، فيما كلّ التركيز في المرحلة الراهنة يَنصبّ على حصر هذه المواجهات ومنع تمدّدها والعمل على مواجهتها.

وقد لمس زوّار المملكة لدى القيادة السعودية أنها بمقدار تمسّكها بالثوابت العربية والدور العربي في تعاطيها مع لبنان وغيره من الدول، فإنها تحرص بالمقدار نفسه على أن يحافظ لبنان على وضعه الحالي في انتظار ان تتبلور التسويات على مستوى المنطقة.

كذلك لمس هؤلاء الزوار أفكاراً جديّة لدى المسؤولين السعوديين إزاء حلول تتعلق بمستقبل المنطقة، وتمّ التداول في هذه الافكار وتشريحها والاستفاضة في مناقشتها، خصوصاً انّ المملكة تريد ان تناقشها، الى جانب أفكار أخرى، مع حلفائها قبل دخول المنطقة في التسويات العملية، وهذه الافكار أولية وتتعلق برؤية موسكو وواشنطن لحل الأزمة في سوريا وفي الدول الأخرى المأزومة، إذ في ظل طرح البعض ان تبدأ الحلول بالأزمة السورية أولاً، فإنّ البعض الآخر يرى ان تكون الحلول شاملة لكل الدول المأزومة في المنطقة، بمعنى انه يجب الاستفادة من الاهتمام الدولي الاستثنائي الحالي بواقع المنطقة عموماً وبالوضع السوري خصوصاً من أجل الدفع في اتجاه عقد مؤتمر دولي ـ إقليمي لحل أزمات المنطقة برمّتها، خصوصاً انّ هذه الازمات مرتبطة بعضها ببعض ولا يجوز الفصل في ما بينها.

وبالتالي، فإنّ هذا الاهتمام الدولي قد لا يتكرر في مراحل لاحقة ويجب اقتناص الفرصة لتحقيق التسوية الشاملة في المنطقة، لأنّ النزاع الاساسي هو من طبيعة سعودية - إيرانية ولا يمكن تحقيق اي تسوية في أيّ دولة الّا من خلال حوار سعودي ـ ايراني.

ولذلك، من المناسب جداً إنطلاق حوار إقليمي برعاية دولية للوصول الى الحل الشامل. وهذا الواقع يستدعي من المملكة العربية السعودية تفعيل حضورها في المنطقة، خصوصاً انها ستكون ركيزة أساسية وكبرى في النظام العربي والاقليمي الجديد الذي سيسود في المنطقة في ضوء التسويات المنتظرة.

وتندرج لقاءات القيادة السعودية مع المسؤولين والقيادات اللبنانية التي ستتلاحق في قابل الايام والاسابيع في إطار السعي للحفاظ على «الستاتيكو» السائد واستطراداً التوازن القائم، لأنّ هذا التوازن كفيل باستبعاد هيمنة اي فريق على الدولة، ويشكّل مدخلاً للتسوية الموعودة عندما يحين أوانها.

ويؤكد المسؤولون السعوديون في لقاءاتهم اللبنانية، حسب زوّار المملكة، حرصهم على لبنان اولاً، ويلفتون الى انّ انكفاءهم عنه في المرحلة السابقة كان سببه أنه ساحة مستقرة فيما الساحات الساخنة تتطلّب من الرياض اهتماماً اكبر، وقد لمست اليوم انّ عليها رفع مستوى اهتمامها بلبنان مع بداية دخول المنطقة في مرحلة جديدة منعاً للتفرّد او الاستفراد به او استخدام ساحته وتحويلها صندوق بريد ضد التوجّه العربي عموماً والسعودي خصوصاً، عن طريق فك عزلة النظام السوري من البوابة اللبنانية في تحدّ للإرادة السعودية والعربية، فهذا الفك لا يمكن ان يحصل جزئياً، وإنما يجب ان يحصل كلياً عبر مبادرة عربية تستعيد سوريا بها شرعيتها العربية من خلال البوابة السعودية.