«قمة الامن والتنمية» في جدة كانت باعتراف كثيرين محطة كشفت الوضع الاميركي المأزوم داخلياً واقليمياً ودولياً، لما طرحه الرئيس جو بايدن من مواقف دلّت الى انّ الولايات المتحدة الاميركية، وفي عالم متغير، ما تزال تعيش عصر السيطرة الاحادية على القرار في العالم وذلك من حلال حديثه عن انّ بلاده لن تخرج من المنطقة وتترك فراغاً تملأه الصين وروسيا، فيما هو يعلم علم اليقين انّ ما بات للصين وروسيا من مصالح في المنطقة وحتى في الدول «الحليفة» لأميركا لا تستطيع واشنطن ان تقتلعه بسهولة لا بالحروب الهاربة هي منها أصلاً، ولا بالديبلوماسية التي باتت هزيلة بعدما كانت تتّكئ على الحليف الاوروبي الضائع حالياً في غياهب أزمات الطاقة وسواها نتيجة مضاعفات الحرب الروسية ـ الاوكرانية.

وباعتراف كل المتابعين انّ زيارة بايدن للمنطقة لم تحقق له كل ما طمح اليه وخطّط، وانه «حفظ شيئا وغابت عنه اشياء». وسجل هؤلاء المتابعون انتصاراً ونجاحات لولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان الذي لم يعط ضيفه الاميركي الشيء الكثير لا في الشكل ولا في المضمون. ففي الشكل لم يكن ولي العهد السعودي ولا خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في استقباله في مطار جدة كما فعلاً يوم استقبالهما الرئيس السابق دونالد ترامب عام 2017، وإنما استقبله امير مكة خالد الفيصل وسفيرة السعودية في واشنطن ريم بنت بندر.

 


اما مصافحة «القبصة بالقبضة» بين بايدن وبن سلمان، والتي خطط لها الرئيس الاميركي وهو في اسرائيل، فجاءت في مصلحة ولي العهد السعودي الذي قارَعه في خلال المحادثات الحجة بالحجة سواء في قضية مقتل الصحافي جمال خاشقجي او في قضايا الطاقة من دون ان يقدّم له شيئاً يمكن ان يساعده على تحقيق اي مكاسب يمكنه الاستثمار عليها سواء في الحرب الروسية والاوكرانية او في استنقاذ وضعه في ظل حال الانهيار التي يعيشها في الداخل الاميركي، وهو الذاهب الى الانتخابات النصفية وكأنه خالي الوفاض.

 

وفيما ناقضَ بايدن نفسه وتصرفاته عندما صافحَ الملك سلمان اليد باليد، ردّ ولي العهد السعودي على «القبضة بالقبضة» بأن كسر البروتوكول في استقبال الرؤساء والملوك والامراء العرب الذين حضروا قمة جدة بالاحضان و»العناق حتى الاختناق»، بحسب تعبير الرئيس الراحل صائب سلام عندما كان يوَصّف حال اللبنانيين ايام الحرب اللبنانية المشؤومة من أنه يخاف عليهم «الاختناق من شدة العناق» اذا اتيح لهم ان يلتقوا بعضهم مع بعض في حال زالت الحواجز التي كانت تفصل بينهم ايام تلك الحرب.

 

والواقع انّ معالم فشل زيارة بايدن للمنطقة ظهرت في اسرائيل من خلال الاستقبال الباهت الذي لَقيه هناك وعكسته شاشات التلفزة من لحظة وقوفه على باب الطائرة منتظراً سلّم النزول منها الذي تأخّر إحضاره، فيما ما احتواه «اعلان القدس» الذي وقّعه مع الجانب الاسرائيلي جاء كلاماً مكرراً عن منع ايران من امتلاك السلاح النووي الذي تملك اسرائيل منه كثيرا، علما انّ الجانب الايراني لطالما اعلن ان برنامجه النووي «سلمي» وليس في وارد امتلاك مثل هذ السلاح المحرّم شرعاً بحسب عقيدته الدينية.

 

وسجل كثيرون لولي العهد السعودي تحدّيه للادارة الاميركية التي تعودت الاملاءات التي لا تناقش على كثير من الانظمة العربية عندما قال له انك لا تستطيع ان تفرض قيمك علينا وان لنا قيَمنا ولكم قيَمكم، واذا أصررت فإنك تستطيع ان تفرض هذه القيم على دول حلف «الناتو» فقط.

 

وهنا أسقط بن سلمان من يد بايدن ورقة «الناتو» العربي الذي طمح الى تحقيقه في الزيارة بحيث يكون هذا «الناتو» تحالفاً عسكرياً عربياً مع اسرائيل ضد ايران. وجاء كلام وزير الخارجية السعودية الامير فيصل بن فرحان في المؤتمر الصحافي بعد قمة جدة ليُسدل الستار على هذا «الناتو» العربي بتأكيده ان هذا الامر غير موجود اصلاً، مُتسائلاً عمّن طرحه؟ وأشفَع كلامه بتأكيد ان يد السعودية ممدودة لإقامة افضل العلاقات مع «الجارة ايران»، مؤكدا ان المفاوضات التي جرت معها حتى الان ايجابية ولكنها تحتاج الى متابعة لتحقيق النتائج المرجوة منها، علماً ان دولة الامارات العربية المتحدة استبقت وصول بايدن بإعلان رفضها الدخول في اي تحالف عسكري ضد ايران وانها سترسل سفيرها الى طهران، وكذلك فعلَ الاردن من خلال تأكيده أنه لن يكون جزءاً من حلف عسكري ضد ايران، وكذلك مصر التي تسعى وايران الى تطوير العلاقات بينهما عبر الوسيط العماني.

 

واكثر من ذلك أُسقط من يد بايدن هدف دفع السعودية الى التطبيع مع اسرائيل أسوة ببعض الدول الخليجية والعربية، اذ جاء الموقف السعودي حازماً بأن لا تطبيع قبل ايجاد حل للقضية الفلسطينية عبر مقررات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية التي طرحها الملك الراحل عبدالله بن عبد العزيز في قمة بيروت 2002 على اساس حل الدولتين. واذا كان البعض قد اعتبر قرار الرياض بفتح الاجواء السعودية امام الطيران المدني بما فيه الاسرائيلي والذي اعتبره البعض «تطبيعاً جوياً»، فقد اكد السعوديون انهم التزموا في فتح الاجواء بنود اتفاقية شيكاغوالدولية التي كانوا قد وقّعوها، والتي تفرض على جميع موقّعيها فتح الاجواء امام النقل الجوي للجميع وليس امام اسرائيل حصراً. وبالتالي، فإنّ هذا الامر لا يمكن اعتباره تطبيعاً مع اسرائيل، علماً أن كثيرين يقولون انّ اي تطبيع بين العرب واسرائيل وبين دول الخليج تحديداً واسرائيل لا يمكن ان يكتمل فصولاً اذا لم تشارك السعودية فيه، وهي لن تشارك الا في حال إيجاد حل للقضية الفلسطينية عبر «حل الدولتين»، وهذا الحل كانت اسرائيل ولا تزال تُعرقل الوصول إليه خلافاً لمقررات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية ومبادئ مؤتمر مدريد.

 

اما الخسارة التي مُني بها بايدن فكانت فشله في إقناع السعودية بزيادة طاقتها الانتاجية من النفط الى اكثر من 12 مليون برميل يومياً لتعويض الفاقد الروسي في سوق النفط بسبب الحرب الروسية-الاوكرانية، وذلك من اجل خفض اسعار النفط ومعالجة الازمة النفطية التي تعيشها الولايات المتحدة واوروبا بسبب ارتفاع هذه الاسعار التي بدأ المواطنون الاوروبيون والاميركيون يَكتوون بها، وسيزداد اكتواؤهم اكثر مع اقتراب فصل الشتاء. وقد كان الرد السعودي حاسماً بأن المملكة لا تستطيع الوصول الى طاقة إنتاج 13 مليون برميل يومياً واكثر قبل العام 2026، علماً بأنّ الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون كان قد ابلغ الى بايدن قبل اكثر من عشرين يوما ان لا دولة الامارات ولا السعودية، حسبما ابلغه رئيس دولة الامارات الشيخ محمد بن زايد، قادرتين على زيادة إنتاجهما، وقد ظهرت هذه المحادثة بين ماكرون وبايدن في الفيديو الذي التقطه لهما احد الصحافيين قبل نحو ثلاثة اسابيع.

 

وفي ضوء كل هذه المعطيات، يرى كثيرون انّ بايدن وجد نفسه في قمة جدة امام عالم عربي متغيّر وماض في التغيير، وانّ اعتماده على الولايات المتحدة الاميركية لم يكن الاولوية الوحيدة لديه، وانّ ما حققه من مكاسب خلال زيارته قد لا يسمن ولا يعني من جوع الولايات المتحدة واوروبا الى النفط والغاز ولا لتغيير موازين القوى لغير مصلحة الروس في حرب اوكرانيا، وكذلك لا يمكن تَسييله لرفع منسوب التأييد الشعبي الاميركي له الذي يبلغ 38 في المئة في الوقت الذي اعلن دونالد ترامب ترشيح نفسه للانتخابات الرئاسية المقبلة.

 

فلا «ناتو» عربي تحقّق، ولا تطبيع أُنجز، والنتيجة كانت امتلاك ولي العهد السعودي زمام المبادرة سعوديا وخليجيا وعربيا، وفشل زيارة بايدن فشلاً مزدوجاً، اميركياً واسرائيلياً، فمسيرة التطبيع توقفت عند الحاجز السعودي، و«الناتو» العربي انتهى عند الرفض العربي إقامة حلف عسكري ضمنه اسرائيل ضد ايران وتأكيد الرغبة بالتحاور معها توصّلاً الى تطبيع العلاقات معها. وفي المحصلة فإنّ النتيجة المتوقعة ستكون المضي في الحوارات والديبلوماسية في قابل الايام والاشهر المقبلة لإنهاء الازمات الاقليمية وتطوير العلاقات بين الدول العربية، لا سيما الخليجية منها، وبين ايران التي لم يصدر عن قمة جدة ولا عن اي مسؤول عربي شاركَ فيها أي موقف مُتشدّد حيالها.