ترتكب المجازر وتُهتك الحرمات باسم الإسلام الصحيح أو الخطّ المستقيم: الأرثوذكسية
 

 أولاً: سُنة وشيعة...منظومة واحدة

لم يشهد التاريخ الإسلامي المبكّر ظواهر انشقاق فعلية ضمن العقيدة الإسلامية الواحدة، والتي جاء بها النبي محمد (ص)، وإن كانت الدعوة المحمدّية تحمل في طيّاتها منذ البدء احتماليّتين مزدوجتين، أو خطّين متعارضين، ومن هنا سرّ خصوبتها وغناها إلاّ أنّها لم تفرز وفق رسالتها ما ندعوه ونعرفه بالإسلام السّني أو الإسلام الشيعي. فالإسلام السّني كمنظومة عقيدية لم تفرض نفسها كواقع اجتماعي وثقافي وديني إلاّ بدءاً من القرن الخامس الهجري، على عكس الوهم الشائع بأنّه مرافق لسيرة الخلفاء الراشدين، فقد ظلّت المنافسة حامية وعنيفة بين مختلف القوى الاجتماعية والثقافية التي كانت تتنازع على زعامة الأمة الإسلامية، ولم يحسم الإسلام السّني الأمر لصالحه إلاّ أوائل القرن الخامس الهجري كما سبق وقلنا. وخلال هذه الفترة الزمنية كانت الساحة الإسلامية تضجّ بالطوائف التي قدّمتها الأدبيات البدعوية المتأخرة على أساس أنّها مجرد حركات دينية "مارقة" تهدّد أهل السّنة والجماعة، أي إسلام الأغلبية، الإسلام الرسمي، في حين كانت هذه الطوائف تعبّر عن إرادة القوة الخاصة بكل فئة مُعيّنة من البشر تجاهد برغبتها في الوجود واتّخاذ مكانتها اللائقة بها. ومن بين هذه الطوائف كانت "الإمامية" الشيعية التي ألحّت على مطلب النّقاء أو الصّفاء العقائدي، وكذلك مطلب النجاة في الدار الآخرة بتولّي الأئمة الشرعيين المتّصلين بالإمام علي بن أبي طالب، الإمام المعصوم، وانتظار الإمام المهدي الغائب الذي سيملأ الأرض عدلاً بعد أن مُلئت ظلماً وجورا، أي سيقيم المدينة الفاضلة التي تشكّل انعكاساً للمدينة السماوية على الأرض.

إقرأ أيضا : الصراع بين الشيعة والتشيُّع !

طريقتان مختلفتان لهضم القيم الدينية

لا يتعلق الخلاف السني-الشيعي بقراءتين أو تأويلين مُختلفين للعقيدة الإسلامية، فالإله واحد، والنبي واحد والكتاب واحد، وأصول الدين واحدة، لا تُعكّر صفوها بعض الخلافات في بعض الفروع، ولا يعدو الأمر خلافاً حاداً في هضم القيم الدينية على ضوء تجربتين ثقافيّتين وسياسيّتين مختلفتين، أو لعلّه يتعلق بمسارين مختلفين: المسار التاريخي السّني والمسار التاريخي الشيعي، الأول غالب والثاني مغلوب، الأول لا يعرف الوعي المأساوي والثاني مغموس بالوعي المأساوي. السُّني يفخر بالإسلام المظفّر، الذي قام بالفتوحات ونشر كلمة الله بين الأمم والشعوب، في حين يرى الشيعي أنّ الرسالة ثُلمت في مهدها بطمس وصية الرسول للإمام علي بن أبي طالب، وزاد في تأجيج الحنين اللاهب لفترة النُّبوة مصرع الإمام الحسين بن علي والأئمة الذين يُعتبرون المؤتمنين على وديعة الوحي أو الإرادة الإلهية، وراح هذا التاريخ المأساوي يشكّل الحساسية الجماعية الكليّة للوعي الشيعي.

إقرأ أيضا : الجيش خط أحمر لا مخيم البارد ولا مخيم داعش في القاع
لا يزال هذا المنظور التقليدي للمسارين السّني والشيعي يهيمن على المسلمين منذ ذلك العصر حتى يومنا هذا، ولا يمكن الخروج من أسره إلاّ بالخروج من المنظور التقليدي الذي ما زال ماثلاً في الأذهان، والذي يقول بأنّ فرقةً واحدة هي النّاجية، والبقية هم حطب جهنم، والفرقة الناجية هي الموكلة بمقارعة باقي الفرق الضّالة، أتباع الشيطان، وردّهم إلى جادة الصواب، وعندئذٍ ترتكب المجازر وتُهتك الحرمات باسم الإسلام الصحيح أو الخطّ المستقيم: الأرثوذكسية.