سُئِل أحدُ كبار السياسيين: «هل تعتقد أنّ ثمّة إمكانيةً لولادة قانونٍ انتخابيّ في هذا الجوّ المتشنّج انتخابياً والمتوتر سياسياً»؟ فأجاب: «إذا كانت النوايا صادقة فعلاً في الوصول الى قانونٍ جديد خلال الأيام العشرين الفاصلة عن انتهاء ولاية مجلس النواب في 20 حزيران، فهذا يفرض على القوى السياسية أن تسخّر كل شيء وتقدّم كل التسهيلات وتضعها في خدمة تحقيق هذا الهدف، ولكنني مع الأسف لا أرى ذلك».
 

حالُ السياسي المذكور كحالِ الكثيرين غيره الذين لا يستطيع أيٌّ منهم أن يجزم بأنّ النوايا صادقة، تبعاً لأداء بعض الأطراف، التي تبدو مسترخيةً «على الآخر»، غيرَ عابئة بالوقت الذي يضيق وبالفرص التي تضيع، بل تقارب الملف الانتخابي بوجهَين، حيث تلبس وجهاً حمائمياً تُظهره في العلن، يرشح حرصاً على صحّة وسلامة وعدالة التمثيل خصوصاً للمسيحيين وتأكيداً أنّ القانون سيبصر النور قبل انتهاء ولاية المجلس، وأما داخل الغرف ووقت الجَد، فتلبس وجهاً آخر لا يرى إلّا نفسه وتنضح منه سياسةُ الاستفزاز للآخرين والابتزاز السياسي والانتخابي و«المقاعدي» والرغبة الجامحة في عضّ أصابع كل الآخرين دون تقدير ما إذا كانت سياسة العضّ هذه ستوصِل الى نتيجة!

القانون النسبي بـ15 دائرة ما زال على الطاولة، بعض العاملين على خط الاتصالات يتوقعون أن يتم الاتفاقُ حوله بين لحظة ولحظة، مستندين بذلك الى المناخ الإيجابي الذي ضخّه النائب جورج عدوان. ولكنّ آخرين على الخط نفسه برون الأمور عند نقطة الصفر. و«إيجابية عدوان» لم تكن مكتملة من البداية، وهي الآن ليست مبنيّة على أسس صلبة، كونها ليست أكثر من نصف إيجابية تجلّت بموافقة فريق على الصيغة المسيحية المتفَق عليها في بكركي (نسبية على 15 دائرة).

إلّا أنّ هذه الصيغة ما زالت محلّ خلافٍ جوهري يهدّد بنسفها، بين الفريق الذي شارك بوضعها ووافق عليها في بكركي ويريد اليوم أن يُدخل عليه ما يسمّيها «إصلاحات وضوابط» الأساس فيها نقل مقاعد من منطقة الى أخرى بذريعة استرداد الحق ومحو تركة «الوصاية السورية»، وليس سراً هنا موقف التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية. وبين فريقٍ كان يرفضها أصلاً ووافق عليها أخيراً كما اتفق عليها في بكركي، ويرفض ما يسميها بدعة نقل المقاعد بشكل قاطع.

ويصرّ على أنّ إرادة الوفاق الوطني والعيش المشترَك هي التي توجب بقاء المقاعد في أماكنها الحالية دون أيّ تغيير، وليست إرادة المماحكة السياسية ولا إرادة الكسر والخلع التي تحاول بهذا النقل بناءَ كانتونات مذهَبيّة انتخابية تهدّد الكيان اللبناني. والرئيس نبيه بري كان واضحاً في هذا الموقف ومعه «حزب الله» وبشكل غير معلَن الرئيس سعد الحريري كون كل عمليات نقل المقاعد ستكون من كيسه وعلى حسابه وحده.

«فريق الضوابط والإصلاحات» ما زال يقول «لا قانون بلا ضوابط وأهمها نقل المقاعد، وخصوصاً المقعد الماروني في طرابلس الى البترون، وهناك مَن يحاول أن يقول الى جبيل، وقيل أيضاً إنّ الهدف من النقل هو تصحيح خلل افتعلته «الوصاية» بإحداث مقعد ماروني حيث لا ناخبين موارنة.

قيل إنّ نقل هذا المقعد الى البترون هو لرفع حظوظ جبران باسيل بالوصول الى البرلمان بعد المحاولتين الفاشلتين في 2005 و2009، وإنّ القانون برمّته متوقفٌ على هذا المقعد. فإذا كان هذا الأمر صحيحاً، فلماذا لا يُنقل المقعد الى حيث توجد كثافة مارونية أي الى بنت جبيل مثلاً حيث يوجد ما يزيد عن 12 الف ناخب ماروني بلا مقعد يمثّلهم.

يقول أحد السياسيين المستقلين «توقعتُ كلَّ شيء إلّا أن ينزل البعض عن شجرة الإصلاح، ويتخلّى عن المنطق العلماني ويذهب الى المنطق الطائفي الضيق، ومحاولة ارتكاب خطيئة باعتمادِ منطقٍ أشبه بمنطق «الفصل العنصري» الذي يدعو الى ترك المناطق المختلطة والتقوقع في كانتون انتخابي.

ثم يقول: أحدهم يريد أن يترشح في دائرة يخسر فيها عادة ويأخذ مقعده معه اليها من منطقة أخرى (محاولة نقل مقعد طرابلس)، وهذا يذكّرني بواحد نقَل البارودة من كتف الى كتف في نهاية عهد الرئيس فؤاد شهاب، حيث سألوه لماذا انتقلت من عند الرئيس شهاب الى الرئيس شارل حلو فقال بكل صراحة وبلا تردد: كان البحر في جونية، والآن صار البحر في بعبدا، وأنا صاحب مبدأ، أينما ذهبت آخذ مبدئي معي»!

يقول الرئيس بري «إنّ نقل المقاعد مرفوض شكلاً ومضموناً. هذا النقل يكرّس الطائفية ويعمّق المذهبية ويفرز البلد كما هو حال تقسّم بيروت الى شرقية وغربية، وكأنهم بهذا التقسيم يعيدون ذكريات الحرب المشؤومة. المرحلة تفترض الجمع، ولاسيما أنّ المنطقة كلها تلفحها رياحُ التقسيم، فلماذا نسبقهم الى ذلك بتقسيم أنفسنا ونهيّئ الأرضية لذلك من خلال القانون الانتخابي».

ويستغرب بري الشروط التي يطرحها فريق على مشروع هو وافق عليه في بكركي، ولم يؤتَ آنذاك على ذكر أيّ شروط أو نقل مقاعد أو تقسيم دوائر أو فرز ناخبين أو مايسمّونها ضمانات وما الى ذلك من عناوين ويقول: قبِلنا بمشروعهم المسمّى 15 دائرة، لكنهم بدأوا بطرح الشروط تلوَ الشروط، ومنها نقل المقاعد، هذا غير مقبول ولا يمزحوا معنا في هذه المسألة نحن نريد أن نجمع البلد ولا نفرّقه.

على أنّ موافقة بري على مشروع الـ15 دائرة لا تبدو مفتوحة، وشرط استمرارها مرهون بالإقرار السريع للقانون من دون أيّ إضافات كتلك التي تُطرح من قبل التيار الوطني الحر» فكما سبق لي أن حدّدتُ سقفاً زمنياً لصلاحية الطرح السابق الذي قدّمته حول النسبية ومجلس الشيوخ وقمتُ بسَحبه عند انتهاء المهلة المحدَّدة للأخذ به، فإنّ موافقتنا ليست مفتوحة إذ إنّ لها سقفاً زمنياً هي الأخرى، ويمكن أن تُسحب مع انتهاء المهلة.

الآن ضاق الوقتُ كثيراً، نحن في الربع الساعة الأخير، الجلسة التشريعية محدَّدة في 5 حزيران، ونأمل أن تنعقد وتكون منتجة، ومن الآن أقول إنها إن لم تُعقد في 5 حزيران فسأحدّد موعداً آخر».. هنا يؤكد المتحمّسون لموقف بري «انتظروا شيئاً ما في 18 حزيران». من دون أن يوضح هؤلاء ماهيّة هذا الشيء.

يبقى أنّ اللغط ما يزال مستمراً حول الدورة الاستثنائية وصلاحيّة فتحها، إنما السؤال لماذا لم يبادر رئيس الجمهورية الى إصدار مرسوم فتح الدورة الاستثنائية بعدما توافق على ذلك مع الرئيس الحريري، فمِن شأن ذلك أن يعطي إشارةً جدّية الى تقدّمٍ نوعيّ الى قانون جديد، بدل الصورة المغايرة التي زرعت الشك في هذا التقدّم.

بعض «القريبين» لا يؤكدون حصولَ تفاهم على فتح الدورة، ربما لم يتبلّغ هؤلاء حقيقة ما جرى، حيث كان يوم الجمعة الماضي هو الموعد الذي سيصدر فيه المرسوم، إذ في المناخ التفاؤلي الذي شاع، اتصل الرئيس الحريري بالرئيس بري وتشاور معه في إمكانية أن يعدّ الحريري مرسوم فتح الدورة ويوقّعه ويحيله الى رئيس الجمهورية ليوقّعه، هنا طلب بري من الحريري «الأفضل ألّا تُقدِم على هذا الأمر قبل التشاور مع فخامة الرئيس».

وانتهى الاتصال عند هذا الحد، فعاد الحريري واتصل ثانيةً بالرئيس بري مؤكِّداً «أنّ الرئيس عون موافق، وأنا من جهتي قد أعددتُ المرسوم ووقّعته وأرسلته الى فخامة الرئيس، وعلى أبعد تقدير يُفترض أن يصلك اليوم مساءً (الجمعة). ومنذ ذلك الحين لم يصل المرسومُ بعد!.