تعلمنا في الكُتب الوطنية السائدة في الدكاكين الخاصة في الأحياء الفقيرة من بيروت ومن ثم في المدرسة الرسمية المتواضعة البناء والأثاث أن الاستقلال عمل وطني بإمتياز قام به وطنيون شرفاء من كل لبنان ومنهم من شُنق دفاعاً ودفعاً للإحتلال  ومنهم من سُجن في القلاع من قبل المستعمر الفرنسي لحبس أنفاس الثورة التي قام بها فلاحون وروّاد فكر وتاريخ نضالي بعثاً لنهضة تعطي لبنان حريته وسيادته واستقلاله.
وكنا كباراً وضغاراً  نذهب قبل الحرب الأهلية الى مسرح العرض العسكري في "شاتيلا" احتفالاً بالاستقلال وكنا نردد النشيد الوطني وما حفظنا من إنشاء وأشعار كانت دروساً مركزة في مرحلة الإعداد للتنشئة الوطنية وكانت العروض للجيش والأجهزة الأخرى تبعث فينا حماساً زائداً ورغبة في الإنضمام الى الوحدات المستعرضة عندما نكبر للزود عن لبنان . ولم نكن نعلم أن الدخول الى الأجهزة الأمنية صعب ومستحيل علينا و يحتاج الى واسطة مسيحية تحديداً لأن المسلمين مجرد باش كاتب على الطاولة المارونية.
لطالما تغنينا بأعياد الإستقلال وأقمنا الأفراح في المدارس والشوارع والبيوت وزيّناهم بالعلم اللبناني اذ لا علم آنذاك غيره ولا عروض غير العروض العسكرية والكشفية التابعة للدولة التي مرّت سريعاً على لبنان رغم ما حملت تجربتها من مرّ كثير وحلاوة قليلة لم نتذوقها نحن و إنما تذوقها آخرون ممن يملكون مفاتيح السلطة تماماً كما هو حال اليوم .
تعلمنا في الكُتب الحزبية وخاصة عندما وقعت الحرب الأهلية أن الاستقلال نكتة استعمارية لا حقيقة لها وهي مجرد وهم من صنع المستعمر وجزء من عملية مفبركة لإقامة مسودة مشروع وطني وفق مصالح إستعمارية جديدة تلبي طموحات الباحثين عن فضاء بعيد عن الوصاية المباشرة ولكنه يتحرك وفق رغبات الدولة المستعمرة والتي اتاحت الاستقلال كي تستعمره باسم الاستقلال نفسه وهو شكل جديد من الاحتلال ولكن بسيطرة وسطوة أكثر إيلاماً لأنه يمتلك الدولة المستقلة وهي تظنّ أنها حرّة .
في الكتب الحزبية كل مقدمات الاستقلال مجرد مسرحيات فاشلة فلا أبطال ولا شهداء ولا ثورات ضدّ المستعمر الفرنسي وكل ما جرى توزيع جديد للنفوذين الفرنسي والبريطاني من خلال اتفاق سايكس – بيكو لذا اعتبر الحزبيون بنسخهم السياسية والفكرية المتعددة بأن الدول التي قامت باسم الاستقلال ما هي إلا أدوات سلطوية لقهر ارادة الشعوب الساعية الى الاستقلال الفعلي عن الاستعمار الغربي .
بين قراءتين مختلفتين وأمام تجربة دولة كانت شبه فاشلة أخذتنا الحرب الأهلية الى أحلام رومانسية قامت على جبال من الجماجم وعلى أطلال واسعة ليتبين لنا بعد هلك للحرث والنسل أنها مجرد كوابيس نائمة في قبورنا المفتوحة على المجهول . وهكذا سقط استقلانا في حفر كثيرة وما عاد يشعرنا لا بحلاوة الماضي ومرّه ولا بمرارة ما نعيش من حاضر ماتت فيه كل العناوين الوطنية وسيطرت فيه وعليه أوطان الطوائف وبات الاستقلال أياً كان وفي أيّ الكتب والأفكار مجرد نشيد وطني يقرأ في السنّة مرة واحدة اذا سمح الطقس السياسي في ذلك ويردده المعنيون من أهل السياسة باعتباره من مستلزمات الإحياءات الوطنية والمناسبات التي تعكس في الدولة صورة من صور الوحدة الوطنية الي ذُبحت أكثر من مرة بسكين طائفي حاد وتحت جملة أسباب تتضاعف كل يوم لتلغي من ضرورتها  بغية تثبيت الهوية الطائفية كونها تُبقي البلاد والعباد في قبضة طبقة سياسية تدنت مع تمثيل هش مقارنة مع الطبقة التي حكمت بعد الاستقلال لبنان ونتيجة لفشلها المستمر في الوصول الى استقرار سياسي يصلح الأوضاع المتردية في القلوب وفي الجيوب.