يختلف العرب حول قضايا وملفات متعددة، يأتي في طليعتها الخلاف حول أفضلية أي من إيران وتركيا في لعب أدوار قيادية في المنطقة بعد تراجع الأدوار العربية فيها. ومع احتدام الصراع بين المشروعات الإقليمية المختلفة، يغيب العرب عامة برؤاهم وأفكارهم، التي شكلت تاريخياً حيزاً لا يمكن إنكاره من النقاش العام في المنطقة. انتعشت الأدوار الإقليمية لإيران وتركيا في المنطقة تاريخياً مع فراغ القوة العربية ـ بمعناه الشامل ـ ما شكل الأساس الموضوعي للتنافس على النفوذ بين هاتين القوتين الإقليميتين غير العربيتين. وترتب على ذلك التنافس أن أصبح الانتماء الطائفي محدداً في أغلب الأحيان للميل العاطفي وغير العقلاني بالضرورة، نحو إيران أو تركيا. ويشي تقليب النظر في المقارنة الموضوعية بين إيران وتركيا، بوجود ثلاث مفارقات لا يمكن القفز فوقها تحليلياً: أولاً، كلا البلدين محافظ بامتياز، ثانياً، كلا النظامين يقتربان من بعضهما البعض في جوانب، ثالثاً، كلاهما يؤدي دوراً مشابهاً في الصراعات الكونية الكبرى لعالمنا الراهن.
التصنيف بين اليمين واليسار
تتمثل المفارقة الأولى في تشابه تصنيف كلا البلدين في خانة الاستقطاب الطبيعي في المجتمعات بين اليمين واليسار؛ إذ كلاهما يميني بامتياز. فإذا نظرنا إلى معيارين مركزيين للتصنيف، مثل الموقف الاقتصادي والاجتماعي لنظامي الحكم في إيران وتركيا والانحيازات الاجتماعية لهما، تتأكد النتيجة بانتمائهما معاً إلى اليمين برغم الخطاب السياسي المغاير لكل منهما. وفوق ذلك، لا الدولة الدينية ـ بغضّ النظر عن الدين ذاته ـ يمكن تصنيفها حداثية أو تقدمية حتى ولو رفعت شعار «مناهضة الإمبريالية»، ولا الدولة المنضوية حتى النخاع في «حلف الناتو» والمتبنية بتفان وإخلاص الأجندة النيوليبرالية يمكن النظر إليها بوصفها كذلك. المفارقة الثانية أن كلاً من نظامي الحكم في إيران وتركيا يقترب في جوانب من الآخر، فإيران وإدارة حسن روحاني تتبنى بوضوح هدف الانفتاح على مراكز صنع القرار العالمي، وتتوسل المفاوضات النووية مع الغرب للاندماج أكثر في الاقتصاد العالمي بطبعته النيوليبرالية (وهنا تركيا سباقة)، في حين أن حزب «العدالة والتنمية» الحاكم في تركيا يقترب من مفردات الهوية الدينية وعلاقتها بالمجتمعات (وهنا إيران سباقة).
مفارقة الجيوبوليتيك
تتجسد المفارقة الثالثة الأكثر أهمية في تشابه الوظيفة الجيوبوليتيكية لكلا النظامين في إطار الصراعات الكونية الكبرى الدائرة منذ منتصف القرن الثامن عشر حتى الآن، مع الإقرار بأن تاريخ كل من إيران وتركيا شهد صدامات متكررة مع قوى كبرى في العصور الماضية. والمقصود بهذا الصراع الكوني بين القوى الكبرى هو ذلك الصراع الجيوبوليتيكي الأساسي في عالمنا الحديث، بين القوى البحرية «التالاسوقراطيا» بزعامة بريطانيا العظمى ثم الولايات المتحدة الأميركية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، والقوى البرية «التيلوروقراطيا» بزعامة روسيا القيصرية ومن بعدها الاتحاد السوفياتي ثم روسيا الاتحادية. في هذا السياق، تبرز ثلاث مساهمات مركزية للصراع الكوني من منظار القوى البحرية: الاستراتيجي الإنكليزي هالفورد ماكيندر ومؤلفه «المحور الجغرافي للتاريخ»، والأدميرال الأميركي ألفريد ماهان ومؤلفه «تأثير القوى البحرية على التاريخ»، والاستراتيجي الأميركي نيكولاس سبيكمان ومؤلفه «استراتيجية أميركا في السياسة العالمية: الولايات المتحدة وميزان القوى». ومن بعدهم جاء زبغينو بريجينسكي الذي طور أفكار الرواد الثلاثة ويملك نفوذاً كبيراً في تشكيل الاستراتيجيات الكونية الأميركية حتى يومنا هذا.
لعبت إيران وتركيا دوراً مركزياً في تحقيق الانتصار للقوى البحرية بزعامتها البريطانية على روسيا القيصرية، في ما أطلق عليه «اللعبة الكبرى» في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ثم بقيادتها الأميركية ضد الاتحاد السوفياتي السابق ومن بعد نهاية الحرب الباردة ضد روسيا الاتحادية، عبر منع القوة البرية الروسية ـ أياً كان توجهها الأيديولوجي ـ من الوصول إلى المياه الدافئة. ومردّ ذلك أن جغرافيا إيران تمنع روسيا من الوصول إلى المياه الدافئة عبر السلسلة البحرية (الخليج العربي - بحر العرب - المحيط الهندي)، مثلما تمنع الجغرافيا التركية القوى البرية بقيادة الاتحاد السوفياتي ومن بعده روسيا من الوصول إلى المياه الدافئة عبر السلسلة البحرية (البحر الأسود - بحر إيجه - البحر الأبيض المتوسط)، فتظل روسيا مارداً برياً (أكبر دولة في العالم من حيث المساحة) وقزماً بحرياً (من دون منافذ بحرية إلى طرق التجارة الدولية).
ومع التشابه الوظيفي الواضح في الصراع الكوني الكبير لأدوار تركيا وإيران، تفسح التصميمات الدولية هامشاً لحركتهما الإقليمية. يحتفظ كلاهما بمصالح مشتركة مع الآخر حيال العالم العربي، وأخرى متضاربة تجاهه، بحيث يملأ تنافسهما وتعاونهما في آنٍ معاً فراغ القوة فيه وفق نسق (تتغير بعض قسماته بمرور الزمن واختلاف الظروف) يصب في غالب الأحوال في مصالح القوى الكونية البحرية، مع استثناءات زمنية ضئيلة نسبياً.
حجزت السلطنة العثمانية منذ منتصف القرن الثامن عشر بجغرافيتها الكتلة البرية الروسية عن المياه الدافئة وذلك حتى قيام الجمهورية التركية في العام 1923، واستمرت الأخيرة في لعب الدور ذاته منذ تأسيسها حتى الآن بلا انقطاع. ولعبت إيران الدور عينه منذ منتصف القرن الثامن عشر حتى العام 1979، أي أكثر من مئتي سنة، في مقابل انقطاع ست وثلاثين سنة هي عمر الجمهورية الإسلامية الإيرانية منذ تأسيسها لغاية الآن.