مع الاتجاه اليميني الواضح للانتخابات الرئاسية الأميركية، والمستوى المتدني نسبياً للسجال الإعلامي بين هيلاري كلينتون ودونالد ترامب، تتوجه الأبصار من جديد إلى أوروبا حيث معقل الاشتراكية الديموقراطية للبحث عن جديد إنساني في منظومة أفكار العالم الغربي. وتمثل ألمانيا المهد التاريخي لحركة الاشتراكية الديموقراطية، إذ قدم مفكروها في هذا المضمار مساهمات فكرية وسياسية لا تبارى. وبرغم ذلك تعاني الاشتراكية الديموقراطية الألمانية من تراجع ملحوظ في الشعبية (حوالي خُمس الأصوات حالياً) بسبب صعود أحزاب اليمين المتطرف بعد اتساع موجات اللاجئين من الشرق الأوسط في السنتين الأخيرتين. لا تتحدى الاشتراكية الديموقراطية كمنظومة فكرية النظام الرأسمالي العالمي الراهن وأسسه التي يقوم عليها بأي شكل من الأشكال، بل أقصى ما تتمناه ضبط وترشيد هذا النظام فحسب، في إطار توازني وتفاوضي بين كتل المصالح (من أصحاب الأعمال وممثلي العمال). وبرغم افتقارها إلى الراديكالية، فقد مثلت هذه المدرسة الفكرية العريقة والمتراجعة الجانب الأكثر سطوعاً في التجربة الرأسمالية الغربية، الأمر الذي يطرح أكثر من أي وقت مضى علامة استفهام كبيرة حول قدرة الغرب الرأسمالي على اجتراح حلول عقلانية لمشاكل فكرية وكونية معقدة.
الاشتراكية الديموقراطية في مواجهة «الليبرالية الجديدة»
ترافق صعود العولمة مع تنامٍ موازٍ للأطروحات الأيديولوجية للمدرسة «الليبرالية الجديدة» على الصعيد العالمي، بحيث أصبحت الأطروحات الفكرية لهذه المدرسة عماد العولمة الفكري، وصارت العولمة وعاء تلك المدرسة؛ فارتبطت هذه العولمة وتلك المدرسة برباط توأمة غير منفصم. استتبع هذا الارتباط ارتباط معاكس، فالمدارس الفكرية الأخرى ترى في تصدّيها للعولمة وأخطارها مثل الأزمة المالية الراهنة ذوداً عن حياضها العقائدية تجاه «الليبرالية الجديدة»، التي كانت حتى قبل اندلاع الأزمات المالية المتتالية ممسكة بدفة المبادأة الهجومية على الساحة الدولية. وفيما انتصرت «الليبرالية الجديدة» انتصارا كاملا في الولايات المتحدة الأميركية، فقد كانت أوروبا تشكل حتى وقت قريب عائقاً قوياً أمام سيادتها الفكرية في نصف الكرة الأرضية الغربي.
وتعود بداية النزاع المحتدم بين «الليبرالية الجديدة» وباقي المدارس الفكرية وبمقدمها الاشتراكية الديموقراطية، إلى وقت سقوط سور برلين 1990 والاستسلام غير المشروط لنظم الكتلة الشرقية الاقتصادية والاجتماعية أمام الديموقراطية الغربية واقتصاد السوق. كانت الحرب الباردة تخفي تناقضات الدول الأوروبية المنضوية في التحالف الغربي إزاء النموذج الأميركي، والمتوحدة معه إزاء عدو مشترك، في تجلٍ عملي للقانون الجدلي الذي صاغه الفيلسوف الألماني الأشهر هيغل: الوحدة والصراع، والذي يميز بين الصراعات الأساسية والثانوية.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية رسّخت الولايات المتحدة الأميركية زعامتها للتحالف الغربي، وعمّدَت عملتها الوطنية (الدولار) عملةً عالميةً من دون قيد أو شرط، وجرّت الاتحاد السوفياتي السابق ومن ورائه دول «المنظومة الاشتراكية» الدائرة في فلكه، إلى سباق تسلح أودى بالكتلة الشرقية. كانت الحرب الباردة مريحة نسبياً للدول الأوروبية الغربية، التي كانت قد صرفت أغلب اهتمامها إلى إعادة هيكلة نظمها الاجتماعية وإلى إعادة إعمار اقتصاداتها بعد الحرب العالمية الثانية، ولم تنخرط في سباق التسلح بالكثافة التي اعتمدتها الولايات المتحدة الأميركية.
كانت الظروف الذاتية للدول الأوروبية من جهة، والظروف الموضوعية لتحالف تلك الدول مع الولايات المتحدة الأميركية من جهة أخرى، تسمح بترك أغلب مسؤولية سباق التسلح تقع على عاتق أميركا. ولما كانت المقارنة بين الكتلتين المتصارعتين الشرقية بقيادة الاتحاد السوفياتي السابق، والغربية بزعامة الولايات المتحدة الأميركية، معقودة عملياً على المفاضلة بين النظم الأوروبية الغربية مع مثيلاتها في الناحية الشرقية من أوروبا، فقد كانت المقارنة في مصلحة الغرب بوضوح، ما أسبغ على الدول الغربية شرعية ديموقراطية قل مثيلها في عالمنا المعاصر. ومن هنا يمكن تصور الخريطة السياسية الفكرية، التي دارت الحرب الباردة على خلفيتها؛ إذ تكون الدول الرأسمالية المنضوية تحت التأثير الأنغلو-أميركي على اليمين، والدول الاشتراكية ذات الأيديولوجية والهياكل الستالينية على اليسار، وما بينهما قوى في الوسط تتكون من عناصر الاثنين معاً، ممثلة بدول أوروبا الغربية (على رأسها ألمانيا وفرنسا)؛ اللتان تمتعتا بنظام ديموقراطي يصون الحريات الفردية ويضمن تداولا سلميا للسلطة السياسية، بالإضافة إلى شبكة ضمانات اجتماعية تضارع مثيلتها في الدول الاشتراكية قبل انهيارها.
ظهرت الطبعة الجديدة من الخريطة السياسية الفكرية المذكورة بانتهاء الحرب الباردة، التي عبّرت عن القوى الحاكمة للصراع في نصف الكرة الغربي لعالمنا المعاصر. فالدول الرأسمالية المنضوية تحت التأثير الأنغلو-سكسوني تبقى على اليمين، واليسار - هذه المرة - للقوى الديموقراطية المؤمنة باقتصاد السوق ذي البعد الاجتماعي، والساعية إلى عقلنة النظام الاجتماعي في الغرب الأوروبي. وعليه نشأ صراع جديد يدور منذ انتهاء الحرب الباردة بين «الليبرالية الجديدة» والاشتراكية الديموقراطية، وهو صراع أفكار لم يقل في ضراوته عن الحرب الباردة. لم تكتف الآلة الدعائية «لليبرالية الجديدة» بمحاولة تثبيت فكرة حصر الانتصار الغربي بنجاح النظام الأنغلو-سكسوني، واستبعاد الاشتراكية الديموقراطية ممثلة عن دول أوروبا الغربية من هذا الانتصار، ومن ثم إعلان انهيار الاشتراكية الستالينية انتصاراً نهائياً «لليبرالية الجديدة» وحدها. هكذا طغى ضجيج الاحتفالات الصاخبة «لليبراليين الجدد» بالانتصار على الشيوعية، على حقيقة أن الفضل في انهيار النظام الاقتصادي الاجتماعي للدول الاشتراكية الستالينية يرجع بالأساس إلى جاذبية النموذج الاشتراكي الديموقراطي في غرب أوروبا وفي مقدمته ألمانيا، ونظامه الاقتصادي المعتمد على الآليات الرشيدة لاقتصاد السوق المعقلن، في مقابل انطفاء مثيله في دول «المنظومة الاشتراكية» على الناحية الشرقية من أوروبا.
الاشتراكية الديموقراطية تتراجع أمام الاتحاد الأوروبي
هيأت الأزمات المالية المتتالية الأرضية النظرية لعودة مدارس الاشتراكية الديموقراطية إلى الحياة الفكرية والسياسية في أوروبا، ومرد ذلك أن الفشل المدوّي لآليات السوق استلزم تدخلاً من الدولة في أنحاء المعمورة كافة لحماية مصارفها ومؤسساتها المالية من الانهيار، بسبب فساد الأسس التي تقوم عليها «الليبرالية الجديدة» من حتمية ابتعاد الدولة عن النشاط الاقتصادي. لكن ذلك الأمر لم يحدث، حيث خاضت ألمانيا وفرنسا تجربة الاتحاد الأوروبي وتحدياته، وتراجعت أولويات الاشتراكية الديموقراطية وتقدمت محلها على الصعيد الفكري «الهوية الأوروبية»، لكن من دون محتوى اجتماعي - اقتصادي متبلور. وإذ برع منظرو الاشتراكية الديموقراطية الألمان في تحليلهم للمجابهة الفكرية مع «الليبرالية الجديدة» والعولمة إلى تقديم الجانب الاقتصادي على ما عداه من الجوانب، لإقامة الدليل على بطلان الفرضيات الأساسية لمدرسة «الليبرالية الجديدة»، إلا أنهم أظهروا فشلاً واضحاً أمام تيارات اليمين المتطرف ورطانته الشعبوية. لم تؤثر الاندماجات المتتالية بين الشركات العملاقة في أوروبا بشدة فقط على تطور الاقتصاد الوطني محل عملها، ولا فقط في مستوى معيشة المواطنين، بل أيضاً على هياكل الاقتصاد والمجتمع؛ حيث شدت هذه الاندماجات السياسات الاقتصادية والاجتماعية للدول الأوروبية نحو خدمة مصالح مؤسساتهم المندمجة اندماجا أكثر حدة.
الخلاصة
لم يعد للاشتراكية الديموقراطية مستقبل واضح في الغرب خلال الفترة القليلة المقبلة، برغم توافر الشروط الموضوعية لازدهارها. ومرد ذلك أن صرف الأنظار عن القضايا المجتمعية الجوهرية للمجتمعات واستغلال الهجرة و «صدام الحضارات والأديان» كما هو الحال في ألمانيا وأوروبا، قد أمد اليمين المتطرف بترسانة جديدة من الوسائل لحرف الأنظار عن القضايا الرئيسية. وللمفارقة، فقد أثبت اليمين المتطرف نجاعة أمام الاشتراكية الديموقراطية العقلاني بما يفوق ما أظهرته الليبرالية الجديدة من تماسك فكري أمامها.
ما زال التحكم في قرارات المؤسسات الكبرى في الغرب منعقداً بيد أفراد قلائل يخدمون قوى غير مرئية ويتحكمون في عشرات الألوف من فرص العمل؛ وهو ما لا يتطابق مع مبادئ الديموقراطية. على وجه العموم، تعكس صيرورة انقلاب السلطة الاقتصادية سلطةً سياسية تناقضات المنظومة القيمية الأوروبية الغربية مع البنى التحتية التي نشأت فيها. فإذا كانت الاندماجات بين الشركات العملاقة تكفل للدول الأوروبية حصصاً أكبر ومنافذ تصدير أوسع في الأسواق العالمية، الأمر الذي يضمن دوام الرفاه الاقتصادي لمجتمعاتها، إلا أن ذلك يتحدى مبادئها الراسخة في الأمن الاجتماعي والعدالة لأوسع شرائحها الاجتماعية من ناحية أخرى.
وإذ انتقد الاشتراكيون الديموقراطيون تاريخياً «اليد الخفية» التي تحرك قوى السوق وتعيد التوازن إلى الأسواق بحسب المفهوم الرأسمالي التقليدي، فهم طالبوا دوماً بأن تتحول هذه «اليد الخفية» التي تتحكم بالاقتصاد وبالتالي السياسة أيضاً، إلى يد مرئية ومعلومة للكافة؛ فليست قوى السوق هي المنوطة برسم مستقبل مئات الملايين من البشر، بل البرلمانات والحكومات المنتخبة ديموقراطياً. المعضلة هنا أن الانتخابات المقبلة في ألمانيا ستحمل على الأرجح حزب اليمين المتطرف المعادي للأجانب إلى البرلمان الألماني، لأول مرة في تاريخ ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية!