تحل هذا الأسبوع الذكرى السنوية الأولى لتوقيع إيران اتفاقها النووي مع الغرب، الذي شرّع أبواب الفرص والأخطار أمام طهران في آنٍ معاً. لم تعد إيران مهددة بضربة عسكرية وشيكة بعد إبرام الاتفاق النووي، لكن المياه الكثيرة التي جرت في أنهار إيران بدّلت التوازنات الداخلية فيها على نحو مثير. لم يمثّل الاتفاق النووي مع الغرب التزاماً حقوقياً ـ تقنياً فحسب، وإنما نقلة جديدة في علاقات إيران الخارجية مع العالم ومع الاقتصاد العالمي. انزاح خطر الضربات العسكرية، ومعها انفتحت الأبواب أمام الشبكات العابرة للقارات ومنظومة المصارف العالمية للدخول في شراكات مع رجال الأعمال الإيرانيين. وبالتالي، لعل التداعيات الأهم على تركيبة السلطة في إيران، جراء توقيع الاتفاق النووي، تتمثل في صعود محتمل لقوى ترى في مصلحتها الانفتاح اقتصادياً، وهبوط أخرى يضرب ذلك الانفتاح الاقتصادي مصلحتها في الصميم. ما لا يستطيع السلاح تغييره من توازنات داخلية، يستطيع الاقتصاد فعله، وهو درس تاريخي تكرر في أكثر من بلد خلال العقود المنصرمة. باختصار غير مخل، يتيح الاتفاق النووي لإيران فرص تحديث الاقتصاد والخروج من العزلة التي فُرضت عليها، وفي الوقت ذاته ينذر بمخاطر تغلغل الشركات الدولية في مفاصل الاقتصاد الإيراني، وبالتالي الوصول إلى نفوذ سياسي أجنبي غير مسبوق في تاريخ الجمهورية الإسلامية. هنا يكمن بالتحديد رهان أوباما: تغيير إيران من الداخل من دون إطلاق رصاصة واحدة من الخارج، يواكبه رهان رفسنجاني وروحاني ورجال الأعمال الإيرانيين على استخدام الشراكات الاقتصادية مع العالم لتعزيز الحضور الاقتصادي، وبالتالي تشكيل المشهد السياسي لغير مصلحة التوازنات القائمة.
روحاني يتحين فرصة الولاية الثانية
جرت العادة في جمهورية إيران الإسلامية في المرحلة التي تلت وفاة المؤسس، أن يفوز رئيس الجمهورية المنتخب بفترة ولاية ثانية أيضاً، وهو حال الرؤساء السابقين هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي ومحمود أحمدي نجاد. لكن الولاية الثانية لا تبدو أمراً مضموناً لحسن روحاني برغم ـ أو ربما بسبب ـ نجاحه في إبرام الاتفاق النووي مع الغرب. ستجرى انتخابات رئاسة الجمهورية في إيران العام المقبل 2017، ويتردد أن رئيس البرلمان علي لاريجاني قد يترشح في مواجهة روحاني، وتتداول مصادر أخرى أن الرئيس السابق أحمدي نجاد يفكر بترشيح نفسه أيضاً.
وفي كل الأحوال، يعلم روحاني أنه لا يستطيع الترشح على الضد من رغبة وإرادة مرشد الجمهورية، لذلك فهو يتحسس خطواته في السير على طريق الانفتاح الاقتصادي، لكن من دون أن يفقد دعم المرشد نهائياً. عام واحد يفصل روحاني عن الاستحقاق الرئاسي المقبل، وهي فترة ليست كافية لاجتراح تغيير عميق في بنية المؤسسات، ناهيك عن المقاومة العارمة التي يلقاها من خصومه في تلك المؤسسات. كما أن روحاني ورفسنجاني حليفان، لكنهما لا يمتلكان النفوذ والخلفية ذاتها في مؤسسات الدولة الإيرانية، وبالتالي فالتحالف بينهما مرده تقاطع المصالح راهناً.
يروم روحاني إعادة تشكيل التوازنات الإيرانية ويتصادم في العمق مع هيمنة «الحرس الثوري» على الاقتصاد الإيراني، مثله في ذلك مثل رفسنجاني وكوكبة من رجال الأعمال الإيرانيين الراغبين في إبعاد مؤسسة «الحرس الثوري» عن الاقتصاد. وفي حين قام الرئيس السابق أحمدي نجاد بزيادة ميزانية «الحرس الثوري» في فترة ولايتيه الرئاسيتين، فقد قام الرئيس حسن روحاني بزيادة ميزانية الجيش النظامي بنحو 15 في المئة، وفي الوقت عينه قام بتخفيض ميزانية «الحرس الثوري» في ميزانية العام 2016، ليوازن الأمور بين التشـكيلات العسكرية المخــتلفة في إيران لغير مصلحة «الحرس الثوري».
كما قام روحاني بتعيين حسين جابري أنصاري نائباً لوزير الخارجية للشؤون العربية والافريقية ومتحدثاً باسم الوزارة، بدلاً من حسين أمير عبد اللهيان القريب من مؤسسة «الحرس الثوري» الذي تم تعيينه مستشاراً بالوزارة، في رسالة واضحة لدول الجوار العربية أن إدارة روحاني تريد الانفتاح عليها وعلى مبادرات تسوية. قد لا تكفي خطوة روحاني للتأكد من استلام الدول العربية للرسالة، إلا أن تغييرات روحاني تظهر اختلافاً مؤكداً في رؤيته للإقليم والعالم عن مؤسسة «الحرس الثوري» ونفوذها الكبير داخل إيران اقتصادياً وسياسياً.
المرشد يحكم قبضته في الداخل
في خطوة معاكسة لتعيينات روحاني وذات وقع أكبر اتساعاً، قام المرشد السيد علي خامنئي قبل أسبوع بتعيين الجنرال محمد حسين باقري من مؤسسة «الحرس الثوري» في منصب رئيس أركان القوات المسلحة الإيرانية، لأول مرة منذ قيام الجمهورية الإسلامية في العام 1979. تأسس منصب رئيس الأركان في إيران العام 1989 لينسق بين المؤسسات الأمنية ـ العسكرية الثلاث في البلاد: الجيش النظامي (أرتش) و «الحرس الثوري» (الباسداران) وقوات المتطوعين (الباسيج). تولى الجنرال حسن فيروز آبادي مسؤولية المنصب منذ قيامه وحتى تعيين باقري، وهو المنتمي أساساً إلى قوات المتطوعين (الباسيج)، أي من خارج مؤسسة الجيش النظامي أيضاً. الجديد في تعيين باقري الانتماء المباشر لمؤسسة «الحرس الثوري»، بما يعنيه ذلك من ترضية للمؤسسة وتغليباً متكرراً لها عما سواها من مؤسسات أمنية ـ عسكرية، وبالأخص الجيش النظامي. أما الأهم في دلالة التعيين أن رئيس الأركان السابق حسن فيروز آبادي دعم علناً الاتفاق النووي مع الغرب، في حين يعارض رئيس الأركان الجديد باقري ذلك الاتفاق.
تاريخياً كان هناك فصل في إيران بين الجيش النظامي و «الحرس الثوري»، بسبب خشية مؤسس الجمهورية الراحل السيد الخميني من انقلاب الجيش النظامي على الثورة في بداياتها. لذلك تشكل «الحرس الثوري» من المتطوعين الثوريين في بدايات الثورة الإيرانية بحمولة أيديولوجية ثقيلة للوقوف بوجه الجيش المشكوك وقتها في انحيازه للشاه، في حال خاض الجيش مواجهات مسلحة مع الثورة. من وقتها تطور «الحرس الثوري» كثيراً على مستوى الجاهزية والعتاد، حيث ساهم بشكل أساس في الحرب العراقية ـ الإيرانية، ثم أصبح يلعب دوراً متعاظماً في الأمن القومي الإيراني عبر تولّيه ـ وليس الجيش النظامي ـ قطاعات عسكرية حساسة مثل تطوير قدرات إيران الصاروخية والحرب الإلكترونية.
وكان الرئيس السابق أحمدي نجاد والعقوبات الاقتصادية الغربية على إيران قد أطلقا العنان لمؤسسة «الحرس الثوري» كي تتوسع عبر شركاتها العملاقة في قطاعات الاقتصاد الايراني المختلفة (أبرزها شركة «خاتم الأنبياء»)، لتحرز حضوراً غير مسبوق في المشهد الإيراني عسكرياً وسياسياً واقتصادياً. على هذه الخلفية، يعني تعيين باقري ذي الانتماء الحرسي قائداً للأركان الإيرانية أن المرشد واع للتغير الممكن في الحصص والتوازنات الداخلية جراء الانفتاح الاقتصادي، لذلك يستبق التفاعلات الخارجية والتهديدات غير المباشرة التي يجلبها الانفتاح الاقتصادي بترتيبات داخلية تحصن «الحرس الثوري» داخلياً، أبرزها تعيين باقري في منصبه الجديد.
الخلاصة
لم يعد الاستقطاب الأيديولوجي قطباً للرحى بين قوى إيران المختلفة، بل الرؤى الاقتصادية المتضاربة. كان لإبرام الاتفاق النووي مع الغرب مصلحة حيوية لإيران تُخرجها من عزلتها الدولية وتُحيّد عنها أخطار الضربات العسكرية المحتملة بسبب برنامجها النووي. الآن بعد توقيع الاتفاق النووي مع الغرب تم تحييد الأخطار العسكرية المباشرة، ويبدو الاقتصاد الايراني منفتحاً الآن على العالم أكثر من أي وقت مضى. لكن هذا الانفتاح الاقتصادي المرتبط بتوقيع الاتفاق النووي يهدد من وجه آخر سيطرة «الحرس الثوري» على الاقتصاد، وبالتالي على السياسة في إيران. يعول روحاني ورفسنجاني ورجال الأعمال الإيرانيون على الانفتاح الاقتصادي لتبديل التوازنات الداخلية، في حين يكبح المرشد ذلك عبر تحصين «الحرس الثوري» في الداخل باعتباره الأداة الممتازة لحفظ التوازنات القائمة.