كان الأسبوع المنصرم أسبوعاً تركياً بامتياز، حيث أعادت أنقرة مرة أخرى علاقاتها الكاملة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، بوساطة أميركية. وكانت العلاقات بين الطرفين قد تدهورت في أعقاب حادثة السفينة «مافي مرمرة» التي أبحرت باتجاه غزة العام 2010. وبعدها بيوم واحد فقط، اعتذر أردوغان للرئيس الروسي فلاديمير بوتين على إسقاط الطائرة الروسية الحربية في تشرين ثاني 2015، والتي قُطعت العلاقاتُ بين البلدين إثرها حتى تقديم الاعتذار المذكور، فعادت العلاقات بوتائر عالية للتنسيق في قضايا مختلفة تهمّ الطرفين، بوساطة قطرية وإسرائيلية. بعدها مباشرة عرف مطار اسطنبول أسوأ حادث إرهابي في تاريخه، بسبب التفجيرات الانتحارية التي قام بها أفراد يُعتقد على نطاق واسع أنهم ينتمون إلى تنظيم «داعش» الإرهابي، ما تسبّب في مقتل العشرات وجرح المئات.
ومن المنطقي أن تقوم تركيا التي اتهمت التنظيم الإرهابي رسمياً بتنفيذ العملية، بتغيير سياستها الملتبسة حيال «داعش» طيلة السنوات الممتدة من 2012 وحتى 2015 بسياسة أخرى مناوئة للتنظيم وأكثر اندفاعاً في مقارعته. وإذ دار الحديث في وسائل الإعلام العربية عن «سياسة إقليمية جديدة» لتركيا بعد هذه التطورات المفصلية الثلاثة، إلا أن الأدق هو عودة تركيا إلى سياساتها السابقة على «الربيع العربي» بالانضواء تحت المظلة الأميركية بالكامل، من دون أوهام قيادة أردوغانية للمنطقة وضمن تفاهم روسي ـ أميركي أوسع.
تركيا تخرج من عزلتها الإقليمية
انضوى أردوغان وحزب «العدالة والتنمية» بالكامل تحت المظلة الأميركية منذ وصوله إلى السلطة في العام 2002 وحتى حادثة «أسطول الحرية» مع إسرائيل العام 2010، والتي أراد أردوغان منها استقطاب الشارع العربي تحت شعار التضامن مع غزة. وبسبب علاقات تركيا وقتذاك مع الأطراف كلها في المنطقة، فقد استطاعت الرقص والدوران بمهارة في مساحة محدودة متاحة، من دون الاصطدام المباشر ببقية الأطراف الإقليمية. ساعتها انتزع أردوغان لنفسه مكانة «الوسيط النزيه»، القادر على مخاطبة الأطراف الإقليمية كافة في آن واحد.
إلا أن «الربيع العربي» 2010 ـ 2011 تسبّب في كارثة لتركيا من حيث لم يتوقع أحد، إذ إن طموحات أردوغان المبالِغة في تقديراتها لقدرات تركيا الذاتية، قامت على أساس الاعتقاد بأن التحالف مع جماعة «الإخوان المسلمين» في تونس وليبيا ومصر وغزة وسوريا، سيؤمّن قيادة تركيا للمنطقة لأول مرة بعد سقوط الدولة العثمانية على جناح الجماعة. خرج أردوغان جزئياً من تحت الغطاء الأميركي خلال تلك الفترة لأن القياس الذي تطلّبه لنفسه ولتركيا، كان أكبر كثيراً من القياس الذي ارتأته واشنطن لأنقرة. ومع احتدام الصراعات في دول «الربيع العربي»، تحوّلت تركيا إلى طرف فاعل في الصراعات الدائرة في كل من تونس وليبيا ومصر وسوريا، ولم تعُد وسيطاً بأي حال.
ومع خروج الجماعة من السلطة في مصر وتراجعها في تونس وليبيا، وانزياح موقعها في سوريا لمصلحة تنظيمات مسلحة متطرّفة، فقد عرفت تركيا عزلة إقليمية لم تشهدها في تاريخ حزب «العدالة والتنمية». انقلبت أوهام الزعامة والقيادة الإقليمية التركية إلى «عزلة ثمينة»، بحسب وصف إبراهيم كالين مستشار أردوغان، وتفاقمت العزلة أكثر فأكثر مع التدخّل العسكري الروسي في سوريا وخروج تركيا عملياً من الميدان السوري بعد إسقاط الطائرة الروسية. وترافق ذلك كله مع طفور للطموحات الكردية في شمال سوريا وفي تركيا ذاتها، بالتوازي مع حالة داخلية تركية استقطابية بين المكونات السياسية المختلفة، وتوالي التفجيرات على الأراضي التركية، فأصبح وضع أردوغان على المحك.
صحيح أن لتركيا مصالح كبرى مع روسيا وتفاهمات ومصالح مشتركة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وبالتالي فإن عودة العلاقات معهما يلبي حاجة تركية، إلا أن الإطار العام الحاكم لتغيير السياسات التركية يبدو متمثلاً في الخروج من العزلة الإقليمية. علماً أن الخروج من العزلة يمثل شرطاً ضرورياً لاستمرار أردوغان على رأس السلطة في تركيا، ولضمان تحجيم الخسائر التي قد تطال تركيا جراء الأوضاع في جوارها الجغرافي، وصولاً إلى ترميم جبهتها الداخلية.
أدوار تركيا المتوقعة
من المنطقي أن تعود تركيا لأداء أدوار جديدة في سوريا، ليس بأجندة طويلة وطموح عارم في السيطرة كما كان الحال خلال السنوات القليلة المنصرمة، وإنما في إطار الخطة الأميركية العامة للمنطقة وضمن التفاهم الروسي ـ الأميركي. ولعل أولى ثمار عودة العلاقات الروسية ـ التركية ذلك التقدم الميداني الذي أحرزته الفصائل التركمانية والحليفة في بلدات ريف اللاذقية، فور عودة العلاقات مع روسيا. وإن كان من غير المسموح دولياً وإقليمياً لتركيا الهيمنة على الشمال السوري ـ كما كانت أحلام أردوغان في السنوات الماضية ـ إلا أن تركيا سيكون لها أدوار ـ يُتفق ويُختلف على حدودها ـ في سوريا خلال المرحلة المقبلة، وهي نتيجة لها تأثير مهم على التوازنات الميدانية هناك.
ومن الميدان السوري باعتباره رمانة الميزان الإقليمي إلى الصورة الأوسع، تعني الاستدارة التركية أن الاصطفاف الإقليمي في المرحلة المقبلة سيكون دائراً حول اصطفافين، الأول يضمّ السعودية وتركيا وإسرائيل ومصر ودول الخليج العربية والأردن في مواجهة إيران وتحالفاتها الإقليمية. وفي هذا السياق الاصطفافي يبدو متوقعاً أن تشهد العلاقات التركية ـ المصرية تحسناً ملموساً في القريب، بدفع سعودي وإقليمي وإسرائيلي، برغم عدم حماسة النظامين لهذا التحسّن، كل لأسبابه.
سيعود الاقتصاد ليحتل أولوية السياسة التركية في المنطقة باستثناء سوريا، حيث ستحاول تركيا لجم طموحات الأكراد ومنعهم من وصل مناطق الإدارة الذاتية الثلاث جغرافياً ربما بموافقة دولية. الاقتصاد هنا لا يعني المبادلات التجارية الكلاسيكية مع دول المنطقة، وإنما قد يعني التحوّل أيضاً إلى ملتقى طرق الغاز الروسي والإسرائيلي إلى الأسواق الدولية. وهذا الطموح الغازي لعب دوره الكبير في إعادة العلاقات مع روسيا ودولة الاحتلال الإسرائيلي، إلى جانب العامل السوري واعتبارات متنوّعة أخرى.
كما أن أنقرة ستعود لتلميع صورة «الإسلام المعتدل» الذي ترعاه ليكون بديلاً فكرياً عن التنظيمات المتطرفة، بغرض استعادة صورتها الذهنية الإيجابية في الغرب، ومن دون تبني جماعة «الإخوان المسلمين» كما فعلت خلال السنوات الخمس الماضية. ومع وجود روسيا في المشرق العربي، يُتوقع أن تتموضع موسكو بين الاصطفافين لاقتناص الفرص منهما في آنٍ معاً، بما يؤمن مقايضة أوسع مع واشنطن حول ملفات أوكرانيا والدرع الصاروخي في أوروبا والعقوبات الغربية المفروضة على روسيا. على هذا النحو يمكن أيضاً فهم الحماسة الروسية لعودة العلاقات مع تركيا.
الخلاصة
أربع خلاصات يمكن الخروج بها من الآن:
أولاً: انتهى وهم الزعامة التركية للمنطقة، ونزل أردوغان عن الشجرة إلى أرض واقع المنطقة التي تعرف تشرذماً في عناصر وموارد القوة بين الأطراف الإقليمية المتناحرة. أقصى ما تطمح تركيا إليه الآن العودة إلى دور «الجسر بين الشرق والغرب»، الذي لم يكن يناسبها في أعقاب «الربيع العربي».
ثانياً: تعني عودة تركيا إلى المنطقة ضمن الأجندة الدولية ووفقاً للقياس الذي تحدده واشنطن، تغييراً في موازين القوى في سوريا والمنطقة لمصلحة الاصطفاف الإقليمي المناوئ لإيران. «واقعية» السياسة الإقليمية التركية في المرحلة المقبلة وعودتها بالكامل تحت المظلة الأميركية وانخراطها المتوقع في الاصطفاف الإقليمي الجديد مع السعودية وإسرائيل ومصر ودول الخليج العربية، ستجعل تركيا أكثر قدرة على تعديل التوازنات الإقليمية، وهي نتيجة مطلوبة من الأطراف الدولية كلها.
ثالثاً: تعني الاستدارة التركية الجديدة أن جماعة «الإخوان المسلمين» (باركت السياسة التركية الجديدة بما فيها الانفتاح على إسرائيل)، في الأغلب ستبني على الأمر مقتضاه وتتخلى بدورها عن طموح السلطة في بلدان «الربيع العربي»، مع رغبتها بوساطة سعودية وتركية لتقنين أوضاعها وفقاً للتوازنات والأمر الواقع.
رابعاً: لئن أثبت أردوغان طموحات عارمة في الزعامة بمبالغة في تقدير قدرات بلاده الذاتية، إلا أنه أثبت أيضاً امتلاكه غريزة بقاء غير منكورة وبراغماتية عالية بنزوله عن شجرة القيادة الإقليمية التي عزلته عن الفعل في الإقليم والعالم. تخلّص أردوغان من الحجر الضخم الذي هدّد به الآخرين من دون صدقية كبيرة، وأصبح الآن ممسكاً بحجر يمكن قذفه فعلاً.