الأحداث الأخيرة التي شهدتها منطقة البقاع على خلفية تصفية الفتى حسين الحجيري إنتقاماً لإعدام الجندي في الجيش اللبناني الشهيد محمد حمية، أعادت إلى الأذهان ظاهرة الأخذ بالثأر في منطقة البقاع والتي كانت سائدة فيما مضى في تلك المنطقة كوسيلة كانت العشائر تحتمي بها وتظهر من خلالها قوتها وسطوتها.

وعاشت المنطقة حقبة قاسية مع هذه الظاهرة أدت إلى سقوط المئات من أبناء العشائر، وبقيت المنطقة في حال توتر أمني دائم .

تعريف الثأر :

واعتبر علماء اللغة الثأر من المغالاة في انتشار الغضب وطلب الدم وإسالته، وكانت هذه العادة من عادات الجاهلية قبل الاسلام، حيث كان نظام القبيلة يقوم مقام الدولة، وكل قبيلة تفاخر بنسبها وحسبها وقوتها، وتعتبر نفسها أفضل من غيرها، وكانت العلاقة بين القبائل خاضعة لحكم القوة، فالقوة هي القانون، والحق للقوي ولو كان معتديًا، والاعتداء على أحد أفراد القبيلة يعتبر اعتداء على القبيلة بأجمعها، ويتضامن أفرادها في الانتقام ويسرفون في الثأر، فلا تكتفي قبيلة المقتول بقتل الجاني، لأنها تراه غير كفء لمن فقدوه، وكان ذلك سببًا في نشوب الحروب المدمرة التي استغرقت أعواما طوالا.

وبقي العرب متأثرون بهذه العادة حتى بعد ظهور الإسلام، يروي الشافعي والطبري عن السدي عن أبي مالك قال: كان بين حيين من الأنصار قتال، كان لأحدهما على الآخر الطول، فكأنهم طلبوا الفضل، فأصلح بينهم النبي صلى الله عليه وسلم ، كما نزل عليه من قول الله تعالى: الحر بالحر والعبد بالعبد {البقرة: 178}.

وقد أباح الإسلام القاص وهو الثأر المقيد بعدم التعدي على غير القاتل، ولذلك حرم الإسلام ما كان شائعًا في الجاهلية من قتل غير القاتل، ومن الإسراف في القتل، لما في ذلك من الظلم والبغي والعدوان، قال الله تعالى: ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل {الإسراء: 33}،  قال المفسرون: أي فلا يسرف الولي في قتل القاتل بأن يمثل به، أو يقتص من غير القاتل، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن من أعتى الناس على الله يوم القيامة ثلاثة: رجل قتل غير قاتله".

وقوله صلى الله عليه وسلم : "أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه".

قال ابن حجر: (ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية) أي يكون له الحق عند شخص فيطلبه من غيره.

حكمة تشريع القصاص وتحريم الثأر على طريقة الجاهلية: ويعتبر القصاص في الاسلام أن يقتصر القتل على الجاني فقط فلا يؤخذ غيره بجريرته، في حين أن الثأر لا يبالي ولي الدم في الانتقام من الجاني أو أسرته أو قبيلته. وحيث انتشره هذه العادة السيئة في منطقة البقاع قاد الإمام السيد موسى الصدر في العام 1970 حملة واسعة للقضاء على العادات السيّئة الّتي تكرّس الانقسام وتحول دون تطوّر المجتمع ورقيّه. 

وعمل الإمام الصدر مع أبناء العشائر في منطقة بعلبك ـ الهرمل على أداء قسم “يمين الوفاء” لميثاق يؤكّد التزامهم عدم حماية القاتل في عشيرته، وعدم أخذ الثأر من أقربائه الأبرياء.

وكان له نداء إلى أهالي بعلبك ـ الهرمل، لكي يطفئوا “شهوة الدم” ويقبلوا أن يكون هو الضحيّة ويأخذوا الثأر منه، أو يلتحقوا بـ”نهر الدم المقدّس في مسيرة الفداء على دروب القدس“.

وفي مرجة رأس العين في بعلبك، في تموز 1970 ولمناسبة مرور سنة على تأسيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، عُقد لقاء ضمّ ألوفاً من المواطنين من جميع العشائر، وشارك فيه جميع رجال الدين من كافّة الطوائف، وقرأ الإمام الصدر نصّ اليمين على تنفيذ هذه البنود وردّدها جميع الحاضرين.

فكان أنْ وقّع نحو 1500 شخص من وجهاء المنطقة على وثيقة الالتزام بتَرك هذه العادة، وأقسموا اليمين على ذلك.ووجه الإمام الصدر خلال هذه المناسبة رسالة طويلة الى أبناء العشائر في بعلبك الهرمل دعاهم فيها إلى الإقلاع عن هذه العادة ونبذ الخلافات والفرقة وحقن الدماء والاقتصاص من القاتل فقط .


العلامة الأمين : عادة الثأر عادة جاهلية:

واعتبر المرجع الشيعي العلامة السيد علي الأمين أن عادة الثأر عادة جاهليّة وهي من كبائر الإثم والعدوان. 

وقال سماحته  إن تخويف البريء المسالم يعدّ من كبائر الإثم التي تمنع الشريعة الإسلامية من القيام به منعاً باتاً وهي التي تدخل صاحبها النار وله في الدنيا العقاب الشديد .

وأضاف العلامة الأمين أن الشريعة السمحاء وصفت من يشهر السلاح لإخافة الآخرين وترويعهم( بالمحارب ) و(المفسد في الأرض) واعتبرت هذا العمل حرباً على الله ورسوله، وجزاؤه ما جاء في القرآن الكريم {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف..} سورةالمائدة-33-

ونقل العلامة الأمين أن صاحب الوسائل عقد باباً مستقلاً تحت عنوان ( من شهر السلاح لإخافة الناس فهو محارب سواء كان في بلاد الإسلام أو بلاد الشرك)وذكر فيه جملة من الأحاديث الواردة عن الأئمة عليهم السلام بهذا الشأن -الوسائل-ج-18.

وكما نقل الأمين  روايات تتحدث عن حكم القاتل غير قاتله والضارب غير ضاربه منها،وهي تشمل فيما تعنيه العادة الجاهليّة الشنعاء المسمّاة بالثأر،(لعنة الله والملائكة والناس أجمعين على من قتل غير قاتله أو ضرب غير ضاربه) ومنها (أعتى الناس على الله من قتل غير قاتله أو ضرب غير ضاربه)وفيها أيضاً (لو أن رجلاً ضرب رجلاً سوطاً لضربه الله سوطاً من نار)الوسائل-ج-18 وأشار الأمين أن هذه العادة الجاهليّة قد نهى عنها القرآن الكريم بقول الله تعالى (ولا تزر وازرة وزر أخرى) وبقوله تعالى (من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً) وهذا يعني وجوب وقوف الناس جميعاً في وجه الجريمة الثأرية التي تعرض أمن البلاد والعباد إلى مخاطر الفتن التي تؤدي إلى انهيار المجتمع وسقوطه في شريعة الغاب. ولذلك يجب على الدولة أن تقوم بدورها الواجب عليها في حفظ أمن الناس وحقوقهم والعمل الجاد والسريع على قمع هذه الجريمة النكراء التي أطلت برأسها من البقاع ومعاقبة الفاعلين لتكون رادعاً عنها وعن غيرها من الجرائم التي تهدد أمن المجتمع واستقراره.