يترقب العالم نتائج انتخابات البرلمان و «مجلس الخبراء» في إيران، التي جرت يوم الجمعة الماضي ولم تعلن نتائجها الرسمية بعد. يتوقع أن ينتخب «مجلس الخبراء» خلال فترة ولايته البالغة ثماني سنوات خليفة لمرشد الجمهورية الحالي السيد علي خامنئي (76 عاماً)، في حين يلعب البرلمان تقليدياً دوره الكبير في إمالة ميزان القوى الداخلي في إيران. طالب المرشد السيد علي خامنئي «كل من يحب إيران والجمهورية الإسلامية أن يهرع إلى صناديق الاقتراع لتدمير حلم الأعداء»، حيث جرى العرف على اعتبار نسبة المشاركة العالية مؤشراً على مشروعية النظام الإيراني. مددت السلطات الإيرانية ساعات الاقتراع مرتين لتستمر حتى منتصف ليل الجمعة بهدف رفع نسبة المشاركة في الانتخابات، وهو ما يبدو قد حدث بالفعل. يمكن مقارنة المشهد الانتخابي الإيراني بأجنحته المتضاربة وتياراته الأيديولوجية المستعصية على التصنيف، وبالنتيجة المتوقعة لتركيبة البرلمان بالحلوى الإيرانية الشهيرة «الفالوده الشيرازي». تعد الأخيرة أشهر المثلجات الكلاسيكية الإيرانية وتتكون من مكونات لا يربط بينها رابط من الوهلة الأولى: شعيرية بيضاء اللون حلوة المذاق تسبح في شراب نصف مثلج من ماء الزهر، وتقدم «الفالوده الشيرازي» في النهاية إلى الآكلين وهي مختلطة مع عصير الحامض وأوراق النعنع تعلوهما كرتان من بوظة الزعفران والفستق.

سيولة المعسكرات
ارتكنت التحليلات السياسية لوصف الحراك الداخلي الإيراني منذ قيام جمهورية إيران الإسلامية على ثنائية المحافظ في مقابل الإصلاحي، لكن هذا التوصيف الجامد لم يكن دقيقاً في يوم من الأيام لتوصيف واختزال الصراع السياسي الإيراني. وتكتسب تلك الفرضية مشروعيتها من ملاحظة التوصيفات القائمة حالياً والتي تتجاوز المعسكرين بكثير، فهناك الأصولي والمحافظ المتشدد والمحافظ البراغماتي في مقابل المعتدل والوسطي والإصلاحي. وإذ يعفي التوصيف السهل بين المحافظ والإصلاحي من مشقة التحليل، بحشر شخصيات إيران السياسية على اختلاف توجهاتها وميولها في أحد المعسكرين تعسفياً، إلا أنه لا يعطي صورة أقرب إلى الدقة لواقع إيران السياسي الحالي. على سبيل المثال، لا يمكن اعتبار الرئيس الإيراني حسن روحاني إصلاحياً بل وسطياً، كما لا يمكن النظر إلى الشيخ هاشمي رفسنجاني رئيس «مجلس تشخيص مصلحة النظام» بوصفه وسطياً أو إصلاحياً، بل بوصفه ربما معتدلاً. الشيء ذاته ينطبق على رئيس البرلمان علي لاريجاني، الذي يمكن اعتباره محافظاً براغماتياً وليس وسطياً أو معتدلاً.
ويرتب تنوع المعسكرات والتصنيفات نوعاً جديداً من الحراك، بحيث يدخل الأخير المنطقة الرمادية من أوسع أبوابها. وانعكس ذلك على قوائم المرشحين في انتخابات البرلمان، حيث كون محمد رضا عارف الإصلاحي ونائب الرئيس الإصلاحي السابق محمد خاتمي قائمة لخوض انتخابات البرلمان أطلق عليها وصف «قائمة الإصلاحيين ومؤيدي الحكومة»، اتسعت لتشمل مرشحين من أطياف تستعصي على الائتلاف في قائمة واحدة. ربما كان السبب الأبرز لتشكيلة قائمة عارف المشار إليها أن «مجلس صيانة الدستور» الذي يفرز صلاحية المرشحين لخوض الانتخابات، قام باستبعاد حوالي ثلاثة آلاف مرشح إصلاحي من الترشح، وأبقى على ثلاثين منهم فقط. لذلك اتسعت «قائمة الإصلاحيين» لتشمل شخصيات من كل نوع ومن «المستقلين» الذين لا يعرف لهم انتماء أيديولوجي محدد، وغالبية المرشحين المستقلين للبرلمان وخصوصاً من الأرياف غير معروفي الانتماء، كما لا يمكن بأي حال التكهن بتحالفاتهم المستقبلية مع المعسكرات المتنافسة. وزاد في الطنبور نغمة أن قائمة عارف ضمت مرشحين لا يمكن اعتبارهم إصلاحيين أو معتدلين أو حتى وسطيين، مثل محمد محمدي ريشهري وزير الاستخبارات الإيراني الأسبق (متهم بتسهيل عمليات اغتيال لشخصيات إيرانية معارضة أثناء ولايته). وحتى «حزب التنمية والاعتدال» القريب من روحاني يعاني من غياب قوام أيديولوجي واضح، فيضم من ناحية محمد باقر نوبخت ذو الصلات الوثيقة مع المحافظين، وفي الوقت ذاته يضم الخبير الاقتصادي أكبر توركان الإصلاحي القريب من المرشح الرئاسي في العام 2009 مير حسين موسوي.
وحتى لا تستأثر سيولة التصنيف الأيديولوجي كمنظار وحيد لتحليل الانتخابات، يمكنك ملاحظة اختلاف الميول التصويتية للشرائح الاجتماعية المختلفة، وهو معيار لا يخيب في العادة عند التحليل الرصين لإيران وغيرها. تجسد ذلك الاختلاف لقطتان ذات دلالة على وسائل التواصل الاجتماعي: ففي حين التقط سكان شمال طهران مثلاً صوراً لأنفسهم أمام مقرات الاقتراع رافعين علامة النصر الإصلاحية (على طريقة «سلفي» ومركز الاقتراع خلفي)، فقد ساد مزاج مختلف في أحياء جنوب طهران الفقيرة، حيث فضل كثيرون منهم مقاطعة الانتخابات، احتجاجاً على عدم تحسن أوضاعهم الاجتماعية حتى الآن برغم إبرام الاتفاق النووي مع الغرب.

موازين القوى الداخلية بعد الانتخابات
برغم الأخبار الرائجة بتقدم روحاني ورفسنجاني في انتخابات «مجلس الخبراء» ذي الثمانية والثمانين مقعداً، إلا أن تركيبة هذا المجلس المناط به تسمية مرشد الجمهورية ومراقبة أعماله لن تشهد تغييراً يعتد به. ومرد ذلك أن الغالبية الكاسحة من الأعضاء المرتقبين لن تكون ميالة إلى أي من روحاني أو رفسنجاني، بل إلى مروحة من التيارات المنضوية بالكامل تحت عباءة المرشد الحالي والتيارات الأصولية والمتشددة. وبرغم ذلك، يمكن استنباط دلالة نوعية من تقدم روحاني ورفسنجاني في انتخابات «مجلس الخبراء»، مفادها أن الناخبين يظهرون «تصويتاً اعتراضياً» ويقدمون حيثية شعبية ما لروحاني وسياساته، لكنها حيثية لن تنعكس في موازين القوى داخل هذا المجلس. في المقابل، تبدو الصورة مختلفة ـ في حدود ـ في انتخابات البرلمان، حيث يتنافس حوالي عشرين مرشحاً على كل مقعد من مقاعد البرلمان (6200 مرشح على 290 مقعداً). قاطع الإصلاحيون والمعتدلون انتخابات برلمان 2012 احتجاجا على انتخابات الرئاسة في العام 2009 التي أتت بأحمدي نجاد رئيسا في مواجهة مير حسين موسوي، فجاء البرلمان وقتها من لون واحد تقريباً. وبرغم استبعاد الإصلاحيين بالجملة من خوض الانتخابات الراهنة، يعلق روحاني آمالاً على تشكيل كتلة ما في البرلمان من وسطيين ومعتدلين ومستقلين وإصلاحيين تكون عوناً له في معاركه الداخلية المرتقبة، وتسهيل انتخابه لولاية رئاسية جديدة العام المقبل.
في الظروف الطبيعية، يفترض أن روحاني دخل انتخابات الجمعة الماضية ومواقعه متحسنة بسبب تحقيق وعوده الانتخابية الرئاسية في العام 2013 بإنهاء العقوبات الاقتصادية وعزلة ايران الدولية، إلا أن اعتبار موازنة الأجنحة بعضها ببعض له الثقل الأكبر في تشكيل سياسات إيران الداخلية من منظار مرشد الجمهورية. ألقى المرشد بثقله خلف روحاني في المفاوضات النووية مع الغرب وكبح جماح المتشددين الذين رغبوا في عرقلة مساعيه، لكن المرشد لن يواصل دعم روحاني في سياساته الاقتصادية النيوليبرالية المنفتحة على الغرب. كان الاتفاق النووي ضرورياً لرفع العقوبات الاقتصادية عن كاهل الاقتصاد الايراني وتخفيف الضغط السياسي عليها وهي أهداف مواتية من منظار المرشدية، لكن انفتاح إيران على جناح النيوليبرالية سيفرغ استقلال إيران الوطني من مضمونه من المنظار ذاته. لذلك سيعمد المرشد على انتهاج سياسة موازنة القوى السياسية بعضها ببعض، وهي سياسة أظهر فيها براعة منقطعة النظير منذ اعتلاء قمة هرم السلطة في إيران بعد وفاة الإمام الخميني مؤسس الجمهورية.

النتائج المتوقعة
سيعرف البرلمان الإيراني الجديد تنوعاً مدهشاً من التيارات والائتلافات بسبب سيولة المعسكرات، ومع ذلك يمكن من الآن الخروج بنتيجتين متضاربتين: الأولى أن تشكيلة البرلمان الجديد ستكون أقل تشدداً وأصولية من برلمان العام 2012، والثانية أن الرئيس روحاني لن يملك في البرلمان الجديد أغلبية برلمانية أو كتلة وازنة تسهّل عمل حكومته وتضمن انتخابه لولاية جديدة العام المقبل!
تعيد نتيجة الانتخابات الإيرانية إنتاج «المعضلة الإيرانية» من جديد. فمن ناحية يمكنك القول إن الانتخابات لم تعرف تكافؤاً للفرص بسبب استبعاد الإصلاحيين، مثلما يمكنك أيضاً القول إن الانتخابات الإيرانية المتتالية على مدار أكثر من ثلاثة عقود أفضل من الانتخابات العربية المعروف نتائجها مسبقاً. إن كنت معترضاً، ستستطيع الإشارة إلى هيمنة المؤسسات غير المنتخبة شعبياً مثل «مجلس صيانة الدستور» على المؤسسات المنتخبة مثل البرلمان و «مجلس الخبراء»، أما إن كنت مؤيداً فسيمكنك بسهولة ملاحظة الطابع الجمهوري لانتخابات إيران مقابل الطابع الديني لجمهورية إيران الإسلامية. تأسيساً على ذلك، ستكون نتيجة الانتخابات الإيرانية «فالودية» بامتياز: فإن كنت من هواة المرطبات فهي حاضرة بشدة في صحن ملكة المثلجات الإيرانية، وإن كنت مغرماً بالزعفران والفستق فلا يمكنك إنكار وجودهما الطاغي، أما إن كنت معترضاً على الحامض فهناك من المكونات الأخرى ما يخفف من وطأته على اللسان، وفي كل الأحوال تضفي أوراق النعنع المزيد على بهجة الألوان المتراصة على صحن «الفالوده الشيرازي». بالمختصر السياسي، إن كان هناك من يراهن على تغيير موازين القوى الداخلية الإيرانية بعد الانتخابات، فقد خاب رهانه على الأرجح!