لم يكن علي بن أبي طالب عليه السلام أقل تألقا وهو خارج الحكم منه ، ووقف موقفه المعارض النزيه الذي صار حجة ودلالة على عظمة هذه الشخصية العظيمة الخالدة فأطلق صرخته : "لقد علمتم أنني أحق الناس بها من غيري، ووالله لأسالمن ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جور إلا علي خاصة التماسا لأجر ذلك وفضله ، وزهدا فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه" (بحار الأنوار : ج 23، ص565).

وهذه الصرخة تعني أن المعارض العادل يبقى دائما صاحب الموقف الأكثر طهارة ، بل هو الشاهد على الحاكم وممارساته ، رغم مشاعر الألم على خطوات انحراف ربما لا يقدر عليها تقويما ! وفي خطبة له عليه السلام تسمى (الشقشقية) فيها توصيف للأحداث بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله فقال: "أما والله لقد تقمصها أبو بكر ، وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحا ...(إلى أن يقول) "بلى والله لقد سمعوها ووعوها ، ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها ...(ثم يقول) لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر ، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم ، لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها ..(شرح نهج البلاغة: ابن ابي الحديد ،ج1،خطبة 3) ولكنه لم يلق حبلها على غاربها ...لماذا ؟!

لأن تشيعه عليه السلام لم يكن تشيع التفرقة والتنازع وإنما تشيع الوحدة والتآخي والتأصيل للصحيح ، إنه تشيع المبادئ والقيم والأصول العظيمة ، ورعاية المصالح السياسية والاجتماعية وليس تشيع المساومات والتراجع ...ليس تشيع السب واللعن والإساءة ...إنه تشيع الصفاء العقائدي والنقاء القيمي ،والثبات على الحق والدفاع عن الثوابت والحدود وليس تشيع التمييع والتسويف والشعارات والصراخ والنعيق والبكاء !

ومن خطبة له بعد فتح مصر ، وقتل محمد بن أبي بكر ،يتحدث فيه عما جرى بعد وفاة النبي(ص) قال فيها :"فما راعني إلا انثيال الناس على أبي بكر ، وإجفالهم إليه ليبايعوه ، فأمسكت يدي(كففتها عن العمل وتركت  الناس وشأنهم) حتى رأيت راجعة من الناس رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين الله وملة محمد(ص)، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلما وهدما يكون المصاب بهما علي أعظم من فوات ولاية أموركم ، التي إنما هي متاع أيام قلائل ، ثم يزول ما كان منها كما يزول السراب ، وكما يتقشع السحاب ، فمشيت عند ذلك إلى أبي بكر فبايعته ، ونهضت في تلك الأحداث حتى زاغ الباطل وزهق ، واطمأن الدين وتنهنه" (شرح النهج، ج17،ص 151، خطبة 62) فلم تكن القضية تنازلا عن الحق ولكنها كانت تمثل حماية للإسلام وحفاظا عليه. فيا أيها المحبون لعلي ، إن كان أمير المؤمنين قد أولى مصلحة الإسلام واطمئنان الدين عن فوت الولاية ، وخوفا من أن يهدم الإسلام أو يرى فيه ثلما ، فلماذا أيها المحبون تريدون هدم ما لم يرد أمير المؤمنين أن يهدمه بالصراع لأجل الخلافة ! ولو تأملنا في جملته "حتى زاح الباطل وزهق.."فهو يرى أن الصراع بين المسلمين باطل وهو هدم للدين الإسلامي ،أي لا يجوز ولا يصح . أليس علي الساكت عن إقصائه عن الخلافة ، أسكت عن جبن ؟ أم عن ضعف ؟ أم خشي على الإسلام ...؟! 

فهل نحن نخشى على ديننا اليوم ونحيطه كما فعل إمامنا أم نبقى في دوامة التحريض والفتنه ونختلف على الخلافة ، فإن كنا نفعل ذلك لأنه أحق بها فهو صاحب الحق الذي آثر السكوت عنه وعاون الخلفاء الذين سبقوه حتى زاح الباطل وزهق واطمأن الدين . فهل الدين اليوم والمسلمون غير معرضين للفتن حتى نبقى التفرقة فيما بيننا ؟ إن المنهج في التعاطي الذي تعاطي فيه الإمام علي أدى إلى السمو الروحي لهذه الشخصية العظيمة والسبب لأنه انطلق من خلال رسالة أما نحن فننطلق من خلال عقدة ! هذا هو خط علي ، هذا الخط الإسلامي الأصيل ، نصر الإسلام حينما أبعد الفتنة فحفظ الدين . قال عليه السلام : " أما بعد فإن الله سبحانه بعث محمدا (ص) نذيرا للعالمين ومهيمنا على المرسلين ، فلما مضى (ص) تنازع المسلمون الأمر من بعده ، فوالله ما كان يلقي في روعي ولا يخطر ببالي أن العرب تزعج (تبعد) هذا الأمر من بعده صلى الله عليه وآله عن أهل بيته ، ولا أنهم منحوه عني من بعده... وإني إلى لقاء ربي وحسن ثوابه لمنتظر راج ..."  (شرح النهج ، ج17، خطبة62). فهو يريد أن يقول فليأخذوا هذه الخلافة ولكن مآلها إلى زوال وبعد ذلك ستموتون وسنموت ولكن سيأتي اليوم الذي لا حكم فيه إلا لله ، فالله يمهل ولا يهمل ، وأنا أوكل أمري إلى الله ، وسأصبر وهذا الصبر ستكون نتائجه وعاقبته حسن الثواب ..