جاؤوا بالملايين إلى كربلاء، اجتازوا الحدود طوابير حاشدة، أدّوا الشعائر الدينيّة في مقام الإمام الحسين في مناسبة الذكرى الأربعين لاستشهاده، وعادوا إلى طهران، إلّا أنّ بعض التقارير الديبلوماسيّة يتحدّث عن بقاء نحو مليون و200 ألف. خِطة الجنرال قاسم سليماني واضحة: «أنجعُ وسائل الدفاع، الهجوم المرَكّز»، والدفاع عن إيران يكون بمواجهة «داعش» في العراق.

يلوذ الأميركي بالصمت، العدد لا يزعجه، ولا الإجراءات الميدانية. عندما زار رئيس هيئة الأركان المشتركة للجيوش الأميركيّة الجنرال مارتن ديمبسي العراق في تشرين الثاني الماضي، ركّزَ على التنسيق بين مختلف القوى، ولم يتأخّر رئيس الحكومة حيدر العبادي في نقل الأجواء إلى طهران، علماً أنّ سليماني كان «عالسمع»، وعلى مقربةٍ من المكان.

تجيد واشنطن سياسة «العصا والجزرة» مع إيران، المفاوضات مستمرّة لإبرام الاتّفاق النهائي. والعقوبات إلى مزيد من الانحسار. 900 مليون دولار شهريّاً من الأرصدة المجمّدة «لا تشكو من شيء». محاولات استكشاف مجالات الاستثمار لم تعُد حِكراً على الصينييّن، بدأ الغرب الأميركي ـ الأوروبّي يهتمّ ويتحرّك، إلّا أنّ بناءَ جدار الثقة يحتاج إلى كثير من الوقت والجهد.

بدورِها طهران تُمسك العصا من وسطها، لا تريد أن «تحطّم فخّارها» مع واشنطن، وفي المقابل، لا تريد الإذعان إلى سياستها الملتبسة. إستخدام سلاح أسعار النفط والغاز ضدّها يدفعها للتشبُّث أكثر في سياسة «الإقتصاد المقاوم»، لكنّها تمكّنَت، على رغم كلّ العقوبات الاقتصاديّة، أن تحفظ لنفسها دوراً بارزاً متقدّماً ومؤثّراً على مجريات الأمور في كلّ من العراق، وسوريا، ولبنان، واليمن، وبعض دوَل الخليج. تطالبُها الولايات المتحدة بالإنخراط في محاربة الإرهاب وفق المعايير والمواصفات التي يمليها التحالف الدولي، ثمّ «تعاقبها» خلسةً من خلال السياسة النفطيّة المعتمدة.

يفتح سليماني دفترَ الحساب في قلب بغداد، على صفحتين: محاربة «داعش» وفق المعايير التي تمليها المصالح الإيرانيّة العليا، ومراقبة حراك التحالف ومخططاته، ووضع الاستراتيجيّة التي يتبعها تحت مجهر المراقبة والتدقيق والاستنتاج، لأنّ «هذا الغرب له مصالحه وأهدافه، وله مطامحه ومطامعه، وهو يسعى إلى تحقيقها تحت عناوين برّاقة».

تتفاعل على أرض العراق اليوم استراتيجيتان، واحدة يقودها ديمبسي، والأخرى سليماني. تلتقيان على محاربة «داعش»، وتفترقان على مسائل حيويّة كثيرة. يدخل «الجنرال» فلاديمير بوتين على الخط، متسَلّلاً من «دفرسوار» التباينات في المواقف، يلتقي مع سليماني عند نظريته القائلة «الهجوم، أفضل وسيلة للدفاع؟!».

هل بدأ بوتين خطة الهجوم؟

لقد تحدّث أمام أكثر من ألف إعلامي، خلال مؤتمره الصحافي السنوي الذي يخصّص عادةً لعرض حصيلة العام، عن «جدران يحاول الغرب إقامتها حول بلاده، والتصرّف مثل أمبرطوريّة تتحكّم بأتباعها وتسعى إلى تكبيل الدبّ الروسي ونزع مخالبِه وأنيابه».

كان غاضباً، مأزوماً، وإذا كان سليماني قد عاد إلى العراق بأعداد كبيرة من رجال «الحرس الثوري»، فإنّه هو في الطريق للعودة إلى سوريا بكلّ جهوزيته تخطيطاً وتنفيذاً، وبكامل أسلحته السياسيّة والعسكريّة.

في العراق فتح سليماني دفتر الحساب مع الولايات المتحدة، والتحالف الدولي. في سوريا يسعى بوتين إلى فتح دفتر الحساب أيضاً، وأوّل الغيث «التقرّب» من إيران، والسعي الى إقامة توازن قوّة في المنطقة، فلن يتركَ طائرات التحالف تُعربد وحدَها في الأجواء، بل يسعى لأن يكون لـ«الميغ»، و«السوخوي» دورٌ بارزٌ أيضاً بالتنسيق مع إيران، إذا ما فتحَت له الأخيرة أبوابَها.

لقد وجَّه رسالةً سريعة إلى صديقه «اللدود» الرئيس باراك أوباما، مفادُها: «لقد اكتشفتم أخيراً، وبعد نصف قرن، أنّ العقوبات لم تُجدِ نفعاً، ولم تغيّر شيئاً من سياسة كوبا، فلماذا الإصرار على اعتماد هذه السياسة الخاطئة مع الآخرين؟».

الرسالة عينُها برسم القيادة الإيرانيّة: «نحن معاً في مركب واحد، وعرضَة لسياسة الانتقام من خلال سلاح تدَنّي سعر النفط والغاز لتركيع البلدَين، فهل من إمكان لتحويل هذا المركب بارجةً تُمكّننا من الصمود والمواجهة».

وحتى يحين موعد معرفة مدى حدود سياسة الانفتاح الروسيّة على إيران، وأبعادها، وجدواها، هناك في صفوف الديبلوماسيين مَن يدعو لبنان إلى اعتماد سياسة «شَدّ الأحزمة»، والتحسُّب إلى أمرَين مهمّين جدّاً: مدى التداعيات التي قد تتركها عودة الحرب الباردة ـ الساخنة ما بين روسيا والولايات المتحدة على ساحته الداخليّة، وموقعه على خريطة التحالفات. ومدى «الإيجابيات والفوائد» التي يحصدها من خلال تمسّكِه بسياسة النأي بالنفس عن دمشق، خصوصاً إذا ما عاد إليها القيصر ليرتشفَ الشايَ الروسي في رياضها.