أكّدَت ردود الفعل المستنكرة أنّ لبنان لا يزال في البال، وأنّ المجتمع الدولي حريص على متابعة مستجدّاته، ويكفينا من هذا الدفق قطرة لتشفي الغليل، فكيف إذا طفحَ الكيل وفاضَ بمشاعر التضامن والحِرص على الوحدة الوطنيّة والسِلم الأهلي.

وينتهي كلام المجاملة، ليبدأ الكلام الجد. ما جرى في جبل محسن هو فعل إدانة للتحالف الدولي، وفعل تأكيد على فشل خططِه لمكافحة الإرهاب، وما يصيب لبنان، يصيب فرنسا، ودوَلاً أخرى.

إنّ ما يجري، أشبه «ببزار» لمكافحة الإرهاب، يقوم على احتساب عدد الطلعات الجوّية، وعدد القنابل والصواريخ، والفواتير المدقّقة بأرقامها وحساباتها، والمحالة إلى دوَل النفط لإجراء المقتضى. ووسط هذا «البزار» الذي يُنشّط الصناعة الحربيّة وتجارة الأسلحة، يتمدّد «داعش»، ومعه يتمدّد الإرهاب، والفوضى تتمدّد على الرحب والسعة من دون مانع أو رادع.

ما جرى في جبل محسن، يقاربه بعض سفراء دوَل التحالف وفق الآتي: هناك مَن يريد أن يحجز منذ الآن مقعداً، أو أكثر «للدواعش» في الانتخابات النيابيّة عندما تجري.

وهناك من يريد أن يحجز لهم مقعداً إلى طاولة الحوار ما بين تيار «المستقبل» و«حزب الله»، وعلى قاعدة أن يكون الحوار معهم، بدلاً من أن يكون على حسابهم. ومن يريد ذلك هم المستفيدون، وهؤلاء كثُر، بينهم من لا يريد أن يستمرّ الهدوء إلى ما لا نهاية في عاصمة الشمال لأنّه تعبَ من الاستقرار، وأصابه الضجَر، ويسعى للعودة إلى «المفرقعات»، طالما إنّ منابع التمويل لم تجفَّف بالكامل بعد.

وهناك من يخشى مِن الحوار لأنّ نجاحه سيؤدّي إلى استبعاده عن المسرح السياسي، وحلول آخرين مكانَه. وهناك مَن أخَذه القلق عندما تفرَّس في المشهد الوطني الذي صنعه الرئيس عمر كرامي يوم رحيله، فشاء أن يفسدَ على المدينة وحدتها وإلفتها.

وفي الوسط الدبلوماسي سؤال: لماذا في زمن الحوار، يعود الحديث فجأةً عن جريمة تفجير المسجدَين، والاستنابات القضائيّة، علماً بأنّ الملف في عهدة القضاء، وعند حدود القضاء ينتهي الابتزاز، ونَكءُ الجراح، وإثارة الغرائز. فقبل الجريمة الإرهابيّة التي وقعت بجبل محسن، كان هناك من يذكّر اللبنانيين بعلي عيد، ومذكّرات الجلب.

وقبل الجريمة تردّد في الشارع الطرابلسي كلام عن «الضيق المادي» الذي يعاني منه بعض المستفيدين من قادة المحاور، «لأنّ الشغل كان عالقطعة»، ومقابل كلّ جولة، كانت هناك «إكراميات؟!».

وقبل الجريمة ساد في بعض الأوساط الضيّقة، شعور بعدم الارتياح عمّا كانت عليه المدينة من مظاهر وحدة وفرح وابتهاج بمناسبة الأعياد. لم يكن لثقافة «التوحّش» من أثر، أو مكان، وهذا ما عكّرَ مزاج من يبني زعامتَه على رفض الآخر.

في مكان ما، كانت جريمة جبل محسن مجرّد رسالة للتعبير عن غضب، وضيق صدر من الطريقة المتَّبعة في التعاطي مع ملف العسكريين الأسرى، يريد «الدواعش» التعاطي مع هذا الملف، وفق مزاجهم وشروطهم وإملاءاتهم. يريدون فرضَ خياراتهم على الحكومة والمجتمع، والدخول إلى الحوار من الباب العريض لفرض منطقة عازلة فاصلة، وتسهيلات استشفائيّة، وتموينيّة، وصولاً إلى نوع من التطبيع.

وهناك مَن يقرأ في جريمة جبل محسن بطاقة دعوة «لفحص الدم» الوطني، إلّا أنّ النتائج جاءت جيّدة. إجماع على الإدانة، وعلى الوقوف وراء الجيش، وعلى التمسّك بالوحدة الوطنية.

إلّا أنّ عمليّة «فحص الدم» لم تكن حكراً على اللبنانيين، بل كانت مطلوبة من الدول والجهات الراعية لمسيرة الحوار، ويبدو أنّ الكلام الفصل قد وصلَ في الوقت المناسب من السعوديّة، وإيران: الأوّليّة للحوار، وليس لفتح الخنادق، وإعادة نبشِها من جديد ما بين باب التبانة وجبل محسن، وما بين الطوائف والمذاهب، والمواقع والمناطق.

وتبقى عملية «فحص الدم» مطلوبة بإلحاح من الولايات المتحدة، ودوَل التحالف الدولي. الغريب أنّه بعد مضيّ أشهر على نجاح الخطة الأمنية في طرابلس لم يقرأ اللبنانيون في كتاب التحالف أنّ الدول القادرة والنافذة قد جفّفت منابع التمويل عن التنظيمات الإرهابيّة.

غريب كيف أنّ هذا التحالف الجبّار بإمكاناته ومخابراته لا يستطيع أن يتدبّرَ الأمر، ويبقى هذا الموقف عصيّاً عليه. أمّا أن يقال بأنّ «الدواعش» يتمتّعون من مردودات النفط بعد أن سيطروا على منابع منتجة، ففي هذا الكلام الكثير من «الضحك على الذقون؟!.

غريب كيف أنّ هذا التحالف بطاقاته، وإمكانياته، ومخابراته لم يتمكن من التخلص من هذا «الوباء» بعد كلّ هذه الشهور الطويلة من بَدء الطلعات الجوّية. ألا يستدعي المنطق والواقعية القول، بأنّه لولا السياسة المتّبعة من قبَل الولايات المتحدة، والتحالف الدولي، لمَا تمكّنَ «الدواعش» من العودة إلى طرابلس مجدّداً، للعبث بأمنها؟