يتحصَّن القناص، يُسدِّد جيّداً: الهدف رأس الحوار. خفافيش الليل عادت الى حركتها، ينبلج فجر الفيحاء على «قطرات الندى» موزّعة عبوات هنا، وهناك، وهنالك. الرسالة واضحة: الإسلام المتطرف ضدّ الحوار، وإذا كان لا بدّ منه، فأقلّ المطلوب ألّا يكون على حسابه.

ما تشهده عاصمة الشمال ينطوي على مضمونين: إحتجاج مسبق ضدّ أي محاولة تستهدف شادي المولوي وجماعته في المخيّم أو خارجه. واحتجاج مسبق ضدّ أيّ تقارب مع «حزب الله». لم تصفّق فاعليات المدينة للحوار، وتمنح الرئيس سعد الحريري البطاقة الخضراء لينطلق. وترفض في المقابل عودة المدينة الى الدائرة الحمراء.

حاول التمديد أن يبعد كأس الانتخابات عن الفيحاء حتى لا يدخل التطرّف الى مجلس النواب، لكنّ حسابات الأصوليّين مختلفة. لقد خسروا جولة، لكن المعركة مستمرة، والهدف من عودة خفافيش الليل إنما إبلاغ رسالة عاجلة الى الحريري مفادها أنّ طرابلس لم تعد وسادة تحت إبطه يحملها الى حيث يشاء، وساعة يريد.

حدس النائب وليد جنبلاط في محلّه، لا يتحصّن القناص في طرابلس فقط، بل في عرسال وجرودها أيضاً. تحوّلت قضيّة العسكريين ورقة ابتزاز منذ ساعاتها الأولى لتوظّف في أكثر من اتجاه، آخرها موقف من الحوار، للحؤول دون حصوله. يلقي الوزير وائل أبو فاعور التحيّة على «أبو طاقية»، فيرقص الأخير على أنغام الخاطفين «تعا، ولا تجي؟!».

ويغرّد «أبو تيمور» معلناً استعداده للتدخّل، يريد الانتهاء من هذه المسرحيّة السمجة، وإنقاذ فرَص الحوار، لكن النظرة الديبلوماسية مختلفة: «الأبوات لا يصنعون المعجزات، وتقرّب أبو فاعور من «أبو طاقية»، هدفه إيصال أبو تيمور الى مضارب «جبهة النصرة، وأبواتها»، لبدء حوار جدّي، وفتح صفحة جديدة مع المعارضة السورية المتطرّفة بعد المعتدلة ممثلة بالشيخ معاز الخطيب، فيما الهدف الرئيس حماية الوجود الدرزي من الطوفان».

زار جنبلاط موسكو، وغرّد من هناك مؤكّداً «أن لا دور للأسد في مستقبل سوريا». تمرّس جيداً بملامح وزير الخارجيّة سيرغي لافروف، وقرأ في عقله وقلبه، أكثر ممّا سمع على لسانه. لم تتوّج مفاوضات فيينا النصر لأيّ طرف، حصلت إيران على 700 مليون شهريّاً، تشجيعاً على حسن سلوكها خلال الامتحان الجديد التي تمتدّ فصوله حتى حزيران المقبل. الجميع مأزوم، الجميع في مأزق، والتسويات قد يصار الى إنضاجها على صفيح ساخن.

إنتهت مفاوضات فيينا من دون أن توفد إيران علناً، وبوضح النهار، مبعوثاً رفيعاً لإبلاغ الحليف السوري بالنتائج، كما درجت العادة. ربما حصلت زيارة سريّة، لكن الظواهر تؤشّر الى البواطن. دخلت إيران الى المختبر الأميركي - الأوروبي لفحص الدم، عليها أن تخفّف من نسبة «الكولستيرول» في سوريا كما فعلت في العراق عندما تخلّت عن المالكي لمصلحة العبادي.

في روسيا تلبّك واضح، معركتها مكلفة مع أميركا والغرب الأوروبي حول أوكرانيا، تدنّي أسعار النفط والغاز سيكبّدها خسائر تتجاوز الـ140 مليار دولار سنويّاً، هذا الرقم وحده كفيل بأن يعيد الطوابير أمام «السوبرمركات» الغذائية كما كانت الحال زمن الإتحاد السوفياتي. صحيح أنّ الرئيس فلاديمير بوتين قد استقبل وزير الخارجية وليد المعلم وشدّ على يده، ولكن الصحيح أيضاً أنه هرول في اليوم التالي الى أنقرة.

لم يأتِ ليُدشّن مع الرئيس رجب الطيّب أردوغان قصر «البيت الأبيض» الجديد، ويتمنى له طول الإقامة فيه، بل جاء ليُبرم صفقة «الغاز الروسي، مقابل الفاكهة التركيّة». لكن ماذا عن سوريا، وأين موقعها في الصفقة؟ الأيام الطالعة كفيلة بالجواب.

يأتي بوتين الى أنقرة على أنقاض المحادثات التي أجراها نائب الرئيس الأميركي جو بايدن. لم يكن أردوغان مرتاحاً، هناك بطاقات صفراء أميركيّة ثلاث رفعت في وجهه، لا للمنطقة العازلة في الداخل السوري، وعلى طول الحدود مع تركيا.

ولا لحَظر الطيران فوق سوريا، ولا لتدفق مزيد من الإرهابيّين عبر الحدود في اتجاه الداخل السوري. بعد محادثات بايدن، إستقبل أردوغان الرئيس الروسي وصافَحه بحرارة، فهل تكون هذه مؤشراً لبداية تعاون تركي مع الأفكار الروسيّة بهدف إطلاق تسوية في سوريا يرضى عنها الطرفان؟

لا مكان للمنطقة الرماديّة عندما تكون الخيارات مصيريّة، لكن بعدما تكرّس التباين الأميركي - الروسي حيال أوكرانيا في قمّة العشرين في أوستراليا، وبعد انتهاء مفاوضات فيينا بلا اتفاق نهائي، وبعد انهيار نظريّة وزير الدفاع الأميركي تشاك هاغل حول سوريا ومكافحة الارهاب، يمكن القول إنّ الجميع يقيم حاليّاً في المنطقة الرماديّة، بما في ذلك الحوار ما بين «المستقبل» و«حزب الله»، في انتظار «المبضع» لتأتي الولادة قيصريّة، إذا كانت متعذّرة طبيعيّاً.