هبّت عاصفة أمنية ما بين الشمال والجنوب، حصدَت في طريقها أسلحة وملاحقين، واقتلعَت كثيراً من مخططات الفتنة، ووزّعَت بطاقات الدعوة يمنةً ويسرةً على مَن يعنيهم الأمر التزام الحدّ الأدنى من الوقار والهدوء بمناسبة اقتراب موعد حفلة التنصيب لمجلسٍ قرّر لنفسِه إقامةً مديدة في جمهورية الفراغ.

من مكوّنات العاصفة، دعم معلوماتيّ أميركي أوروبي للأجهزة المختصة، تُحدّد كهوف الإرهاب. ومن مكوّناتها أيضاً تمكين الجيش، بعد صموده وإنجازاته. هناك تفويض مطلق في مرحلة التمديد. الأمر له أمنيّاً، والأمن يوفّر سياسة واقتصاداً.

ذهب السفير الأميركي ديفيد هيل الى عين التينة، فوجَد على طاولة التمديد ملفات كثيرة مبعثرة. الرئيس نبيه برّي يفتش عن الميثاقيّة، فاته أنّها مصادَرة في غابات السلاح، مصادَرة في الهرمل كما هي مصادَرة في بريتال، وفي طرابلس كما في الضاحية والجنوب والبقاع.

وئام وهاب يتحدّث عن مشروع تسليح مئة ألف درزي. ماذا في الزواريب الطائفيّة والمذهبيّة الأخرى؟ يعرف برّي تماماً مصطلحات حكم الضرورة، ويعرف أنّ سفينة الوطن تُدار من الخارج، يتحكّم بها الرادار الأميركي لكي لا تغرق وسط الأنواء والعواصف. لكن ما هو مصيرُها؟ سؤال لا يزال مختوماً بالشمع الأحمر، ولم يحِن أوانه بعد.

على طاولة التمديد خرَق بالية، ومع ذلك هناك من يريد أن يطرد الأوهام وخفافيش الليل بالعصا، ويرفع من البعيد لاءات فاتَها زمن البهورة والنوبات الفوقيّة، فالفراغ الرئاسي تحصيل حاصل منذ ما قبل 25 أيار الماضي.

والفراغ النيابي حاصل منذ ما قبل 25 آذار موعد بدء العقد الدستوري لانتخاب الرئيس، والتمديد فرَض نفسَه أمراً واقعاً، واجتاز نوبته الأولى، وها هو حالياً على مشارف النوبة الثانية التي من المرجّح أن تبدأ الأسبوع المقبل. فماذا بقي من اللاءات؟ وأين العصا في ظلّ المآتم الكبرى التي تشهدها المناطق من الشمال حتى الجنوب، ومن السهل حتى البحر، لوطن يحتضر بالجملة، ويُدفَن بالمفرّق؟

التهديد بالعصا لم يسمعه هيل، أو سمعه متفاجئاً. فالعصا عند الجيش وملكه وحدَه، أو هكذا يفترَض أن تكون. والجيش يستخدم العصا ليطهّر هيكل الوطن من الطارئين أوّلاً الذين حمَلوا إلينا ثقافة متوحّشة موَشّحة بنزعة النزوح الإنسانيّة، وأيضاً من التجّار والمراقين الذين يستثمرون في الإرهاب.

إنّهم معروفون بأسمائهم، ووجوههم، وتصرّفاتهم. هؤلاء يحومون اليوم حول طاولة التمديد بحثاً عن أوراق استثمار جديدة، إلّا أنّ ما كُتب قد كُتب، وعلى الطاولة أولويات ثلاث لهذه المرحلة، وتلك التي ستلي، وتمتدّ ربّما حتى الثلث الأوّل من السنة المقبلة.

الأولى: الجيش خطّ أحمر. دورُه دور الجامع والمنقذ، ومهمّته مطلقة في فرض الأمن، والدفاع عن قيَم الجمهوريّة، أو ما تبقّى منها، وعلى طاولة التمديد ورقة واضحة العناوين والمضامين، يدُه في المرحلة المقبلة مرتفعة وطويلة، لتشكّل المظلّة الواقية وصمّام الأمان.

الثانية: التعاون الاستخباراتي لدهمِ كهوف الإرهاب. لم تعُد تحت الأرض، أصبحَت في القرى والبلدات البعيدة عن ضوضاء المدن، وفي مخيّمات النزوح. أصبحت في الرؤوس المتحجّرة مذهبيّاً وطائفيّاً وكيديّاً.

أصبحت عند «المضاربين» وهم كثُر، الذين يتعاطون مع الوطن كبورصة، ومع الإرهاب كسِلعة. أمّا الهدف فهو حتماً ليس الوصول الى أمن نموذجي، واستقرار مثالي، بل الحفاظ على البقية الباقية حتى بدء مرحلة فضّ العروض حول التسويات الكبرى في المنطقة.

والأولوية الثالثة لم تعُد لـ»الخردة» الماثلة على طاولة التمديد. يحاول برّي أن يضفي نكهة محليّة لبنانية على الطبخة، لكنّ مصطلحات حكم الضرورة ماثلة، القرار لـ»الريموت كونترول» الخارجي، وتحديداً الأميركي.

يحاول في ديوانيته كلّ أربعاء أن يذكّر بأنّ الأولوية هي لانتخاب رئيس بعد التمديد، ولكن هناك من يذكّره دائماً بأولويات أخرى: الأزمات الميثاقيّة والدستوريّة والديموغرافيّة، الإرهاب، السلاح اللاشرعي، النزوح، المخيّمات، التوطين، الفساد، المديونيّة، و»الانفتاح الكبير» على الفوضى.

الأولوية للرئيس! لسنا نحن كلبنانيين من يتحكّم بهذه الأولوية، إسألوا هيل، واستطراداً السعوديّة، وإيران، وتركيا، وكلّ من له مرقد عنزة في هذا الجبل. وإذا كان أولوية فعلاً، فلأيّ جمهوريّة؟ ولأيّ نظام؟ ولأيّ لبنان؟!