تدخل طرابلس، مرّة جديدة، الدائرة الحمراء. يختلف المشهد عن سابقه بشيء من التنوّع. في الماضي كانت المواجهات ما بين باب التبانة وجبل محسن، فيما كان الجيش صمّام الأمان، أمّا اليوم فهي ما بين باب التبانة والجيش، وكأنّ هذه البيئة مسكونة دوماً بهواجس الأحجام وكأنّها أكبر من محيطها، ومن الدور المُسنَد إليها.

فاعليات المدينة أسيرة الواقع المأزوم. البعض مع الوجه الحضاري، مع التنوّع والانفتاح، والعيش الواحد، والدولة، والجيش، والأمن والاستقرار. البعض الآخر يعمل على كلّ الموجات، لبِّيس وجوه، وصوليّ، يزغرد مع أم العريس، ويرقص مع أم العروس، المهم أن يقبله الجميع، وتظلّ مصالحه الخاصة في ألف خير.

البعض الثالث مع طرابلس «قلعة الجهاديّين»، وفق مواصفات الزمن «الداعشي»، المال متوافر، أو يأتي «غبّ الطلب»، «التعبئة التحريضيّة» لها مساجدها وأئمّتها، وارتباطاتها الخارجيّة، من «القاعدة»، إلى «فتح الإسلام»، إلى «النصرة»، إلى «داعش»، إلى آخر النزاعات التي قد تتوالد، ولِمَ لا طالما إنّ هناك بيئة حاضنة، وطرق إمدادات سالكة وآمنة، وشعارات مستوردة، وأحلاماً ورديّة في قيام الإمارة، أو الدويلة.

يتكرَّر مشهد عرسال في طرابلس: مواقع الجيش في المدينة مستهدفة، وكأنّ المطلوب أن ينسحب، ويُخلِي الساحة. القرار الرسمي واضح: فرض الأمن، ولو بالقوّة.

التعزيزات مبرّرة لإجراء ما يلزم حتى لا تبقى مواقعه وعناصره عرضة للاستنزاف، يدخل وفد من المشايخ على الخط تحت شعار حماية باب التبانة من الاقتحام، تجنُّباً لسفك الدماء، والحكومة في مأزق، ما قدّمه وفد تجمّع العلماء في عرسال من نموذج لا يشجّع، كان الإخراج رديئاً، ومكلِفاً، وينطوي على خيانة للمؤسسة والوطن، وعلى تواطؤ مع المسلحين. لا يمكن وفد المشايخ أن يُكرّر في باب التبانة السيناريو العرسالي، لكنَّ الخيارات تضيق، وهذا ما يضع الحكومة ورئيسَها أمام مأزق كبير.

المسلحون لهم شروطهم ومطالبهم للانسحاب وإخلاء الساحة، وفد المشايخ يتصرَّف كـ»ساعي خير»، لكنّ الأسلوب ينطوي على محاذير، إذ لا يمكن تكريس التفاوض مبدأً بين المسلحين من جهة، والدولة صاحبة السيادة من جهة أخرى، وهذه معادلة تهتك ما تبقّى من حرمة سلطة، وهيبة مؤسسات جامعة وضامنة لاستمرارية وطن، وديمومة كيان.

الأنظار شاخصة الآن نحو وزير العدل أشرف ريفي، وبنسبة أقلّ نحو وزير الداخليّة نهاد المشنوق. قبل فترة أعلنَت النسوة الطرابلسيات أنّ وعوداً قد قطِعت للإفراج عن قادة المحاور الموقوفين في سجن رومية، وأنّ تلك الوعود كانت جزءاً لا يتجزّأ من اتّفاق قضى بتسهيل مهمّة الجيش، وإنجاح الخطة الأمنية في المدينة، واستسلام قادة المحاور والمسلحين الفارّين من وجه العدالة، على أن يُصار إلى «ترتيب وضعهم» والإفراج عنهم في مهَل زمنية قصيرة.

المطالب واضحة، والأجندة واحدة: كما في عرسال، كذلك في طرابلس، الإفراج عن الإسلاميين في سجن رومية والسجون الأخرى، وإلّا المعركة مستمرّة، لكن هذه المرّة ضد الجيش، وضد الدولة والصيغة والنظام والكيان، إنّها حالة انقلابيّة للخروج من الدولة إلى دويلة أبو بكر البغدادي، أو مَن يماثله.

الجديد في المشهد أنّ التطرّف الذي يحمل أسماء عدّة، ويتسربل بعباءات تنظيميّة متعدّدة، يرفض الرضوخ والاستسلام، ويصرّ على الجهاد، حتى ولو تمّ الإفراج عن جميع السجناء. يريد تحقيق سلّة مطالبه، والمُلحّ منها هو الحصول على ممرّات آمنة تسمح لهم بالتواصل مع وادي خالد من جهة، وعرسال من جهة أخرى، والهدف هو الواجهة البحريّة ومنفذ لـ«الدواعش» على المتوسّط.

ويبدو أنّ المشهد يتدرّج نحو التصعيد. بعض الفاعليات المتعاطفة مع شعار «طرابلس قلعة الجهادييّن» يُحرّض، ويُغطّي مخطّطاً استفزازيّاً تدميريّاً، من مظاهره الحديثة الضربُ على الوتر المذهبي التفتيتي، وتبرير وتغطية بعض الحالات الشاذة التي ظهرت في الأيام القليلة الماضية، ويسعى إلى تعميمها سلاحاً جديداً يلجأ إلى استخدامه للنَيل من وحدة المؤسسة العسكريّة، وإحراجها لإخراجها من المدينة والمحيط ليتأمّن «الدفرسوار الآمن» من جرود عرسال إلى شواطئ الفيحاء، وسط صمتٍ محيّر من أولئك الذين قيل فيهم وعنهم يوماً أنّهم يملكون مفتاح المدينة، وزمام قرارها.