بين العمليّات الإرهابية المتنقّلة من جرود عرسال إلى أحياء طرابلس، خيطٌ واحد يجمعها، وهو استهداف الجيش اللبناني في اعتباره الركيزة الأقوى للدولة والمجتمع والصيغة اللبنانية.

على رغم قِلّة تجهيزه، ما زال الجيش يشكّل عنصر صمود رئيسياً في المواجهة مع الإرهابيين، ورغم أنّ غالبية القوى السياسية تُجاهِر في تأييده والالتفاف حوله، فإنّ المصادر السياسية المعنية تعتقد أنّ الجيش بحاجة إلى ما هو أكثر من مواقف التأييد التي تصدر من هذا الفريق أو ذاك.

فالجيش يحتاج أوّلاً إلى تسليح وتجهيز ضروريّين لمواجهة قوى لم تستطع حتى الآن حكومات ودوَل، وحتى تحالفات دوليّة، أن تواجهها، وما زال الغموض يكتنف سرّ امتناع البعض عن المساهمة فعلياً في تقديم الحدّ الادنى من الحاجات المطلوبة للمؤسسة العسكرية.

فالهبة السعودية ما زالت تنتظر التنفيذ رغم الوعود التي تطلَق بين الفينة والأُخرى، وآخرُها حديث الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند إثر استقباله الرئيس سعد الحريري. واللبنانيون يسألون ما هي «القُطبة المخفيّة» التي تحول دون ترجمة هذه الوعود، خصوصاً بعدما أعلنت المملكة العربية السعودية جهاراً نهاراً عن تخصيصها مليارات الدولارات لشراء أسلحة فرنسية وغير فرنسية لتسليح الجيش اللبناني.

وهذه «القُطبة المخفيّة» تتّصل أيضاً بالهبة الروسية التي أعلنَت موسكو عن استعدادها لتقديمها إلى القوى الامنية والعسكرية اللبنانية، ولم تصل حتى الآن رغم مرور سنوات على زيارة نائب رئيس الوزراء ووزير الدفاع السابق الياس المر إلى موسكو، ورغم مرور أسابيع على زيارة وزير الداخلية نهاد المشنوق إلى العاصمة الروسية التي عاد منها متفائلاً بمدَدٍ روسيّ للقوى الامنية اللبنانية.

و«القُطبة المخفيّة» نفسها تخيّم اليوم على ما أعلِن عنه من هبة إيرانية تنتظر زيارة وزير الدفاع اللبناني إلى طهران بهدف توقيعها وقد باتت معروفة طبيعة السلاح الموهوب إلى لبنان وتطابقه مع حاجات الجيش اللبناني في مواجهته المجموعات الإرهابية.

وإذا كان التدخّل الأميركي الأخير للحيلولة دون قبول لبنان هذه الهبة الإيرانيّة يكشف جانباً من تلك «القطبة المخفية»، فإنّ مصادر ديبلوماسية تؤكّد أنّ وراء هذه القُطبة في تجميد الهبات الأخرى تقف واشنطن أيضاً بذرائع مختلفة، في مقدّمها الخوف من أن يستعمل لبنان هذه الاسلحة في مواجهة مع إسرائيل.

إلّا أنّ الجيش يحتاج أيضاً إلى ما هو اكثر من السلاح، فهو يحتاج بيئة سياسيّة حاضنة فعلياً له، فلا يكون للبعض لغتان، بعضها ظاهر كالإطناب بدور الجيش، وبعضها باطن كتقديم ذرائع للذين يعتدون عليه.

ومن هنا يعتقد بعض السياسيين أنّ اللبنانيين جميعاً مدعوّون الى إدراك اهمّية المساندة الفعلية للجيش ورفع أيّ غطاء مباشر، أو غير مباشر، عن المجموعات التي لا تنفكّ تتّهمه بأبشع التهَم، ثمّ تنفّذ عمليات إرهابية ضد مواقعه وحواجزه.

وتذكّر مصادر مطلعة في هذا المجال أنّ اللبنانيين لو وقفوا جميعاً وراء جيشهم في بداية الاحداث، فلم يصوّره البعض كحامٍ لعصبية طائفية معيّنة، فيما حرَّض البعض الآخر عليه، فشهدَ ما شهد من انقسامات لم تؤذِه وحدَه بل انعكست آثارُها السلبية على البلاد كلّها.

وأوّل المطلوب من السياسيين أن يتعاملوا مع قضية الجيش كقضية مصير وطني، وأن يتصرّفوا على أساس أنّ تقويته هي بوّابة العبور الفعلية لقيام الدولة التي لا يمكن ان تقوم إلّا على قاعدتين: وفاق وطني لبناني حقيقي، وجيش لبناني قوي.

بالطبع، نظرةُ اللبنانيين اليوم الى جيشهم ليست كتلك التي تسبّبت بالانقسامات التي عرفها عام 1975-1976. كما أنّ الجيش قد أثبتَ في أكثر من امتحان أنّه ليس جيشاً مرشّحاً للانقسام، بل هو مهيّأ للإمساك بدوره الوطني المنشود.

وتبدي هذه المصادر خشيتها من ان يكون تلكّؤ بعض النواب عن تلبية مطالب العسكريين المُحقّة في إطار سلسلة الرتب والرواتب ليس بعيداً عن تلك السياسة التي لا تريد للبنان جيشاً قوياً ولا تريد للجيش وطناً متماسكاً يحتضنه ويحافظ عليه بأشفار العيون.

وتقول إنّ الحسنة الوحيدة التي قد تكون لقرار التمديد للمجلس النيابي هي في أن ينسى بعض النواب المزايدات الانتخابية فيسعون ولكسبِ بعض الأصوات إلى تهديم أهمّ ركائز الوطن، وبالتالي فقد يخفّف تمديد الولاية النيابية من حمّى الإطلالات الإعلامية النارية لهذا النائب أو ذاك المرشّح، وهي إطلالات ينبغي ضبطها بقرار ذاتي يتّخذه الإعلام أوّلاً، وبملاحقات قضائية من السلطات المعنية ثانياً.

وتقول المصادر عينُها إنّ لبنان نجح في تأليف حكومة وفاق وطني بعد تعَثّر دام أشهراً، وضمّت كلّ الكتل النيابية الرئيسية، فيما يضمّ المجلس النيابي
ايضاً ممثلين عن التيارات الرئيسية في البلاد، فلماذا لا تنحصر المداولات والملاحظات المتعلقة بالجيش وأدائه داخل المؤسسات الدستورية بدلاً من أن تبقى المنابر مشرّعة والأضواء مسلطة لإبراز خطاب ناريّ من هنا وتصريح تحريضيّ من هناك.

علماً أنّ أيّ استطلاع للرأي العام اللبناني سيكشف بلا صعوبة أنّ الغالبية الساحقة من اللبنانيين متمسكة بالدولة في وجه الدويلات وبالجيش في وجه مجاميع الذبح والنحر والقتل المنتشرة في اكثر من ناحية من نواحي لبنان، ومع ذلك تطفو على السطح أصوات مغايرة لهذا التوجّه، وتبدو كأنّها ذات صفة تمثيلية كبيرة، وتتّهم الجيش بأنّه منحاز إلى فئة دون أخرى، وهو أمرٌ ينفيه أداؤه في اكثر من منعطف، بل يعبّر عنه حِرص قيادته على أن تكون المنفّذ الأمين للتوافق السياسي في البلاد حتى ولو فقدَ بعض أعزّ ضبّاطه وعسكرييه من كلّ الطوائف والفئات على يد الإرهاب.

ولذا فإنّ الجميع مدعوّون إلى تقديم ما يستطيعون للجيش، والحكومة مدعوّة إلى تأمين كلّ ما يحتاجه من أيّ مصدر كان، شرط أن لا يمسّ سيادة البلاد وقرارها المستقلّ. ويكاد اللبنانيون اليوم يقولون: «مَن يحبّ لبنان يحبّ جيشَه. ومَن يتردّد في دعم جيشه يساهم في خراب بلده».