من يُمسك بالأرض يُمسك بالقرار، لذلك تبدَّلت الشعارات وتغيَّرت وجهة الانتفاضات. حتى الثورة السوريّة التي تحمل شعار إسقاط النظام، باتت تُدرك الاستحالة في ظلّ التوازنات الدوليّة السائدة، ولو أسعَفتها الظروف، فإنّ السقوط لا يعني الحلّ، ولا يحمل النهاية السعيدة، بل يشكّل ربّما بداية مرحلة جديدة من حروب لا تنتهي، في ظلّ سلاح يحمل الهوية المذهبيّة، ويبحث عن أرض يستكين فوقها.

لا يزال النظام يملك القوّة والقدرة على الصمود، لكنّه لا يملك الأرض: مساحات شاسعة، ومناطق، وأقاليم خرَجت من تحت سيطرته، وباتت في عهدة «داعش»، أو «جبهة النصرة»، أو المعارضة المعتدلة.

و«أخوةُ السلاح» الذين جمعهم شعار «إسقاط النظام»، بدَّدتهم الشهوة إلى السلطة، وهذه لا يمكن ممارستها، إلّا إذا كانت هناك أرض تمَّ إحكام السيطرة عليها، والإمساك بمقدّراتها، لذلك يدور النزاع على امتلاك التراب، أكثر من إسقاط النظام، وربّما انحدرَ هذا الهدف الى المرتبة الثانية أو الثالثة من بنك الأهداف.

هذا في سوريا، أمّا في لبنان، فأوجه الشبه تكاد تكون واحدة. واقعة بريتال «حمّيلة أوجه». الطائفيّون والمذهبيّون ينظرون إليها على أنّها جولة من حرب طويلة ما بين السُنّة والشيعة. تجّار المحاور يصفونها بالجولة ما بين الخليجيّين والإيرانيّين. السياديوّن يؤكّدون أنّ ما حدَث هو نزاع على الأرض، «حزب الله» يتصرّف كأنّه المالك الشرعي، فيما اتّخذت «النصرة» طابعَ الهجوم للسيطرة، وتثبيت موقع قدَم، ومعه موقع نفوذ.

لم يكن الهدف إيجاد ممرٍّ للنزوح من مرتفعات عرسال إلى الزبداني مع اقتراب فصل الشتاء، بل إيجاد مساحة من الأرض تكون امتداداً لمرتفعات عرسال، وداخل الحدود اللبنانيّة، بهدف تكبير شأن الدويلة على حساب الدولة والنظام.

يطالب عدد من وزراء «14 آذار» بإدراج أحداث بريتال على جدول أعمال مجلس الوزراء، وحجّتُهم أنّ الإرهاب قد تحوّل واجهة تخفي وراءَها مطامح ومطامع كثيرة، وأنّ محاربته لا تكون خارج إطار الدولة، وعلى حساب السيادة، لأنّ التوغّل في هذا المنحى يقود حكماً إلى ما تشهده سوريا، حيث تقتني كلّ مجموعة السلاح، وتُحكم السيطرة على مربّعها بحجّة أنّها تتّخذ ما يلزم من الاحتياطات الضرورية لمكافحة الإرهاب، الذي أصبح في الداخل، و»متغلغلاً» بين مخيّمات النزوح.

لا يمكن التسليم بأنّ النقاش سيقود إلى تفاهمات على أطُر ومعايير محدّدة للعلاج. هناك تفاهم مسبَق على إيلاء الشأن للجيش، ولكن هناك سابقة استمدّت «شرعيتها» بفضل مرور الزمن، ذلك أنّ «حزب الله» لم ينتشر حيث هو، منذ الأمس، بل هو هناك منذ أعوام بين أهله وعشيرته، نسَج مع عائلاتها علاقات ثقة وتعاون، يُغذّي شرايينَه من روافدها، ويستميت في الدفاع عن بشرها وحجرها.

حتى أسلوب التعاطي مع الهجوم، قد وفّر للحزب مكاسبَ معنوية، ذلك أنّ الإعلام حرصَ على وصفِه بـ»الهجوم على موقع حزب الله»، بدلاً من «الاعتداء على السيادة اللبنانية في منطقة يتواجَد فيها الحزب؟!». والتماهي مع هذه الإشكالية، يعني الانزلاق أكثر فأكثر في لعبة تشليع الوطن.

ليست «فوارقنا» مختلفة عن المشهد السوري. في لبنان أيضاً النظام في أزمة، المؤسسات في شهر عسل مع الفراغ، بساط السيادة يَزمّ، الفئويات والعشوائيات تنتعش على حساب القوانين المرعيّة، والانتظام العام يُعاني من خَلل كبير.

وبات من الطبيعي جدّاً أن تتمدّد الدويلات في ظلّ انكماش الدولة، ويتعاظم شأن الفئويات والمذهبيّات. ومن منظار بريتال، يمكن النظر بعين إلى «حزب الله» ودوره وحضوره في هذه المرحلة المصيريّة، والنظر بعين أخرى إلى البقاع الغربي، وطرابلس، وعكار، والأقليم، وصيدا.

قد لا تكون هناك بيئات حاضنة لـ«داعش»، و«النصرة»، لكن قد تكون هناك بيئات متعاطفة على خلفيّة مذهبيّة سياسيّة تعتمل منذ أعوام طويلة في الجسم اللبناني، وتقوّض بنيته شيئاً فشيئاً. ومؤسف القول إنّ التنافس الوطني لم يعُد في شأن قيام الدولة القوية القادرة والعادلة، بل في شأن الأرض، وعلى قاعدة من يمسك بالأرض يمسك بالقرار.