يعتقد محلل استراتيجي عربي واكبَ النزاع العربي - الاسرائيلي منذ عقود بكلّ مراحله العسكرية والسياسية، انّ مفاوضات القاهرة غير المباشرة بين الفلسطينيين والاسرائيليين تأخذ منحى يذكّر بسياسة «الخطوة خطوة» التي اعتمدها وزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسنجر بعد حرب تشرين 1973.

ويقول هذا المحلل إنه اذا حصل تمديد ثالث للهدنة الانسانية في غزة فإنّ الاوضاع ستتجه الى وقف اطلاق نار طويل نسبياً تتمّ خلاله التفاهمات الضرورية حول القضايا الخلافية التي برزت خلال هذه المفاوضات.

لكنه لا يعتقد انّ سياسة "الخطوة خطوة" الكيسنجرية ستأخذ المسار نفسه الذي أخذته عام 1973، وأحدثت خلافاً استراتيجياً كبيراً بين رُكنَي تلك الحرب الرئيسَين الراحلين انور السادات وحافظ الاسد، بل ربما تأخذ شكلاً معاكساً بسبب اختلاف الظروف الفلسطينية والاسرائيلية والاقليمية والدولية.

ويضيف المحلل نفسه انّ المشكلة الحقيقية التي تواجه المفاوض الاسرائيلي هي اكبر من المطالب الفلسطينية التي هي في النهاية ليست اكثر من تنفيذ اتفاقات سابقة تمّ التوصل اليها برعاية مصرية في الحروب السابقة بين الفلسطينيين والاسرائيليين على أرض غزة.

فالاسرائيليون مستعدون للقبول بفتح المعابر واطلاق الاسرى الذين حررتهم "صفقة شاليط" وتوسيع المجال البحري لقوارب الصيد الفلسطينية في غزة، والتعهّد بعدم القيام باعتداءات او اغتيالات جديدة.

لكنهم غير مستعدين لأن يأخذ قبولهم بتلك المطالب شَكل انتصار فلسطيني في السياسة بعد الفشل الاسرائيلي في الميدان. والاسرائيليون ما زالوا يعانون من "عُقدة" لبنان الذي اعتبر قادتهم يوماً انّ احتلال ارضه لن يكون اكثر من نزهة لكتيبة مجنّدات اسرائيليات يَمتطين دراجات هوائية.

و"عُقدة" لبنان بالنسبة الى الاسرائيليين تتلخص بأنها اعطت قدوة لنَهج المقاومة في فلسطين الذي كادت اتفاقات اوسلو أن تغيّبه. والاسرائيليون، حسب المحلل نفسه، يربطون بين الانتفاضة الثانية في 28 ايلول 2000 وبين تحرير الجنوب والبقاع الغربي في 25 ايار من العام نفسه.

كذلك يربطون بين صمود المقاومة في لبنان عام 2006 وبين صمود الفلسطينيين في غزة في حروب 2008 و2012 والآن التي ظهرت فيها قدرات المقاومة الفلسطينية على تطوير وسائل المواجهة، سواء في الصواريخ ومداها أو في الانفاق وتوغّلها داخل الكيان الإسرائيلي.

ومن هنا يحاول الاسرائيليون ان يقنعوا الوسيط المصري بإيجاد مخرج يحفظ لهم ماء الوجه امام الرأي العام الداخلي، وكذلك امام الرأي العام الفلسطيني والعربي والاسلامي والعالمي.

ويضيف هذا المحلل انّ كسينجر الذي نجح في اصطياد "السمكة الكبيرة"، وكان يقصد بها مصر، ونجح في ايجاد شَرخ بين قطبي حرب تشرين 1973 في القاهرة ودمشق، لن ينجح تلامذته اليوم في ايجاد شرخ بين الفلسطينيين أنفسهم ولا بينهم وبين القيادة المصرية، خصوصاً بعد ان أظهرت القيادات الفلسطينية مرونة عالية في التعاطي مع المبادرة المصرية، فدعَت بكلّ تهذيب الى تعديلها مع المجاهرة بالتمسّك بدور مصر واحترام المطالب الفلسطينية.

ومن العوامل المهمة التي تغيرت بين اوائل السبعينات وهذه الايام، انّ الحرب تدور داخل فلسطين وليس في الارض العربية المحتلة، اي سيناء والجولان، وانّ القيادات الفلسطينية على اختلاف رؤاها وتباين اساليبها هي اليوم أصلب ممّا كانت عليه قيادة السادات في السبعينات حين وضعت كلّ اوراقها في السلّة الاميركية.

والوضع العربي والاقليمي، على رغم حال التردي والتشظّي التي تسيطر على اقطار عربية مهمة، يشهد في المقابل وجود جبهة منيعة للمقاومة تمتد من الناقورة حتى خراسان، وهي جبهة يمكن المقاوم الفلسطيني ان يراهن على صمودها ويكسب الرهان. بل أن يراهن على قدراتها في حال تطورت المجابهة العسكرية وانتقلت الى غير جبهة من جبهات المواجهة.

ومن هنا فإنّ سياسة "الخطوة خطوة" ستترجم نفسها بقبول اسرائيلي متدرّج للمطالب الفلسطينية، وقد بدأ هذا القبول يتجلى بالانسحاب الكامل للجيش الاسرائيلي من الاراضي التي احتلها في غزة بعد بدء العملية البرية، وبفتح المعابر جزئياً بين غزة واسرائيل، وبالتالي تلبية بعض الشروط الفلسطينية من طرف واحد ومن دون ان يظهر ذلك رضوخاً لتلك الشروط.

لكن الى متى يمكن ان يستمر تمديد هدنة الـ72 ساعة من دون التوصل الى اتفاق يلبّي حداً معقولاً من المطالب الفلسطينية التي هي في الاساس مطالب معقولة ولا تخرج عن سياق اتفاقات سابقة رَعتها مصر نفسها؟

يقول هذا المحلل انّ الامور قد تتّجه في هذه الحال الى تحريك الضفة الغربية والقدس من خلال انتفاضات متصاعدة تجعل الجيش الاسرائيلي نفسه يقاتل على جبهتين في آن معاً، وتفتح الآفاق نحو تسوية شاملة تقوم على "حلّ الدولتين" والانسحاب الاسرائيلي من الضفة الغربية والقدس، وهو أمر ماطلَ الاسرائيليون طويلاً في تحاشيه عبر ابتكار كل اساليب التسويف والمماطلة مُستندين الى دعم اميركي وغربي كبير، والى ضعف وانقسام في الصفّين العربي والاسلامي.

ويلاحظ هذا المحلل الاستراتيجي انّ وتيرة الانتفاضة في القدس واحيائها المتعددة أعلى بكثير منها في الضفة الغربية، ويعزو ذلك الى انه لا يوجد في القدس قوات أمن تابعة للسلطة الفلسطينية ومُلزمة بالتنسيق الامني مع قوات الاحتلال.

ويرى انّ كل الظروف الآن باتت مؤاتية لكي تتخذ القيادة الفلسطينية في رام الله قراراً بالسماح لأهل الضفة بإشعال انتفاضة ثالثة تضع المحتلّ الاسرائيلي في وضع بالغ الحرج والخطورة أمام مجتمعه، وكذلك امام الرأي العام الدولي.

فالاسرائيلي هنا، ومعه مَن يسانده في واشنطن وحكومات الغرب، لا يستطيع تبرير قمع انتفاضة شعبية سليمة بحجة الدفاع عن النفس، ولا يستطيع اتهام متظاهرين سلميين يخرجون من كل مدن الضفة الغربية ومجتمعاتها بأنهم ارهابيون يمكن تعبئة الرأي العام الداخلي والخارجي ضدهم.

ويقول المحلل السياسي انّ الإسرائيلي بدأ يشعر بتداعيات عدوانه على غزة عالمياً واقليمياً في آن، فهو إذ يرى ما يشبه الانتفاضة العالمية ضد عدوانه الوحشي وقتله آلاف المدنيين الفلسطينيين، يشعر انّ تبدلاً واضحاً في الخطاب الرسمي العربي قد بدأ يظهر، خصوصاً في خطاب وزير الخارجية السعودي الامير سعود الفيصل خلال افتتاحه مؤتمر وزراء خارجية منظمة التعاون الاسلامي في جدة، وهو خطاب يدرك الاسرائيليون مغزاه ومعناه بالنسبة الى دولة بوَزن المملكة العربية السعودية.

ويضيف هذا المحلل انّ مشهد توافق خصوم الامس في الاقليم والعالم على موقف موحّد من الاوضاع في العراق، ومن الترحيب برئيس الوزراء المكلف الجديد حيدر العبادي، هو مؤشر الى انّ تمادي اسرائيل في العدوان على غزة مقروناً بتمدد "داعش" في العراق وسوريا قد بدأ يوجد بيئة من الوفاق الاقليمي والدولي تجفّف كثيراً من القدرة الاسرائيلية التاريخية على الاستفادة من التناقضات العربية والاقليمية.

ومن هنا، يتفاءل المحلل الاستراتيجي نفسه بأنّ العدوان الاسرئيلي على غزة قد فشل في تحقيق ايّ من اهدافه، وانّ ملامح النصر الفلسطيني ستظهر تِباعاً "خطوة خطوة"، خصوصاً اذا تمسّك الفلسطينيون بوحدتهم، وتمسّك اهل الاقليم بتضامنهم، وهو ما بدأت آثاره تظهر في تصريحات وزير الخارجية الاسرائيلي المتطرف افيغدور ليبرمان عن العودة الى المبادرة العربية التي كان قد اعتبرها شخصياً، قبل فترة، بأنها "مبادرة ميتة ولا تستحق ايّ نقاش".