الليالي مختلفة جداً بين القارات والشعوب، يكفي ان يتأمل المرء في فجاجة هذه التناقضات لكي يشعر بالمرارة وبالإثم الإنساني ، ولن أتردد في القول ربما عليه ان يحسّ بالوحل يلوّث العلاقات بين الشعوب، ما يدفعني الى استعادة حديث ونستون تشرشل عن "العلاقات المتوحشة بين الشعوب"، وهيرودث الذي كان قد شكا قبل 25 قرناً من "العلاقات الوحشية بين الامم"!
عندما ذهبت الكرة الارضية الى البرازيل قبل نحو شهر لتهتف للاقدام وتصفّق للكرات، وعندما بدا وكأن دويّ الجماهير الهازجة ينطلق من جرم الارض الى المجرة كلها، كانت هناك "مونديالات" من نوع آخر، واحد صامت ينطوي على حال الحرمان والاستغلال التي يديرها الوحوش بمهارة، وواحد ينطوي على حالات القتل والدم والتدمير التي يديرها المتوحشون بمهارة ايضاً.
في سيالكوت احدى المدن الباكستانية، يعكف الاف من الاطفال والنساء على صنع كرات القدم ذات الالوان الجذّابة التي تصنعها الشركات الغربية العملاقة ونشتري الواحدة منها بخمسين دولاراً، بينما يتقاضى هؤلاء دولاراً واحداً في اليوم، وعندما تصرخ الجماهير لركلات المباريات في البرازيل يكون هؤلاء المتعبون غارقين في النوم من الإعياء والجوع والمرض، فلقد صنعوا لنا الفرح وذهبوا وألقوا برؤوسهم كرات من الحرمان تحاول النوم في العراء... انه "مونديال" الفقر والإستغلال الانساني!
في سوريا والعراق واليمن وليبيا وبلدان عربية اخرى من منطقتنا التاعسة تتدحرج الرؤوس البشرية المقتولة او المقطوعة استعراضاً امام الكاميرات، كما في حقول الدم وساحات الانفجارات المروعة وعند دوي البراميل المتفجرة وسقوط قذائف مدافع الميدان في بيوت الطين وأسقف القش، تتدحرج الرؤوس تماماً كما تتدحرج الكرات على العشب الاخضر في البرازيل.
هناك دوي الفرح وقد علقت قلوب اهل الكرة الارضية في الشباك وفي الاقدام التي تقوم بتسجيل الاهداف، وهنا دوي التعاسات الكبرى والمذابح وهول الموت والقتل وقد علقت قلوب اهل منطقتنا العربية بالهلع، حيث تصنع الرؤوس القاتلة مونديال الدم والموت، والفرق ان الاقدام هناك في مباريات البرازيل تصنع الاهداف والفرح والبطولات، اما الرؤوس هنا في حروب الاخوة الالداء فتصنع الموت والبؤس ... والعار.
هل من المعقول ان أنسى مونديال القتلة والسفّاكين في تل ابيب، الذين في غمرة غرق العالم في مونديال البرازيل، وغرق معظم الدول العربية في مونديال هابيل وقايين الدامي والمجنون، يقيمون حلقة جديدة من مونديال الجريمة المستمرة منذ عام 1948، فيقصفون ويدمرون ويقتلون ويحرقون الناس، والعالم في الغرب مشغول بفرح للحياة تصنعه الاقدام، اما في منطقتنا فنحن مشغولون بحزن الموت تصنعه الرؤوس... فعلاً يا للهول!