اليوم الأمني بامتياز الذي شهدَه لبنان يوم الجمعة الفائت استدعى تساؤلات من طبيعة متناقضة: هل دخلَ لبنان في مرحلة أمنية جديدة شبيهة بالتي اختبرها قبل تأليف الحكومة؟ وهل التسريبات العشوائية التي أساءت إلى الحكومة وصورة لبنان ناتجة عن ارتباك فعليّ أم عن وجود مخطّط بأهداف سياسية؟

الواقعة الأمنية الوحيدة لهذا اليوم الأمني الطويل هي الانتحاري الذي فجّر نفسَه بعدما انكشفَ أمرُه، وكلّ ما عدا ذلك من توقيفات في الحمراء وإقفال طرقات وإلغاء مناسبات وإطلاق تحذيرات وتعميم أجواء والإعلان عن ملاحقات، لم تُثبت الدلائل الحسّية لغاية اليوم مدى صحّتها.

الأمر الذي يتطلّب من السلطة السياسية فتحَ تحقيق لمعرفة الأسباب الحقيقية الكامنة وراء خلقِ هذا المناخ التوتيري في البلد، خصوصاً أنّه ضربَ أهمّ إنجاز للحكومة، والمتمثل بوقف التفجيرات وفكّ الاشتباك في طرابلس وإعادة الاستقرار وتنظيم جولات خارجية لدعوة العرب إلى الاستثمار والاصطياف.

فعلى السلطة أن تضع الرأي العام في حقيقة الصورة، لجهة ما إذا كانت الإجراءات التي اتُّخذت ناتجة عن معلومات غير دقيقة، ولكنّها اضطرّت إلى التعامل معها بجدّية وبعيداً عن الخفّة و»الاستلشاء» تجنّباً لأيّ كارثة وطنية، أم أنّ المعلومات كانت جدّية ومثبتة وأنّ الإجراءات التي اتُّخذت أدّت غرضَها وفعلت فعلها، لأنّ خلافَ ذلك يفتح باب التخمين السياسي، ويضرب صدقية الحكومة والأجهزة ويضع ما حصل في سياق السيناريو الرامي إلى استخدام الأمن كوسيلة لتغيير المعطيات السياسية المتصلة تحديداً بالانتخابات الرئاسية، وإعادة تفعيل عمل الحكومة والتمديد للمجلس النيابي.

من هنا، الأيام المقبلة كفيلة بتظهير كامل الصورة لجهة ما إذا كان لبنان دخلَ في مرحلة أمنية جديدة وأنّ العملية الإرهابية الأخيرة هي بداية مسلسَل ستشهد الساحة اللبنانية المزيدَ من حلقاته الدموية ربطاً بالحدث العراقي الذي حرَّك الخلايا النائمة ونشّطها، أم أنّ المقصود إدخال البلاد في توتيرات أمنية مبرمَجة ومضبوطة ومقصودة ومحدودة، بغية الخروج من الجمود السياسي، خصوصاً أنّ عامل الوقت، بالنسبة إلى «حزب الله»، بدأ يعمل لمصلحة 14 آذار، وبالتالي يريد أن يضمن وصول رئيس يكون مشاركاً في إيصاله.

وفي موازاة ذلك، ثمَّة وجهة نظر تجمع ما بين الاحتمالين، بمعنى التأسيس على واقعة فعلية تتّصل بوجود انتحاري بغية توظيفها عبر تضخيمها لمآرب سياسية، لأنّ الأسباب التي أدّت إلى وقف التفجيرات لا يبدو أنّها انتفت وتبدّدت، ومن أبرزها الآتي:

أوّلاً، الاتفاق الدولي-الإقليمي على تحييد لبنان ما زال مستمرّاً، بدليل الزيارة الخاطفة لوزير الخارجية الأميركي جون كيري إلى بيروت موجّهاً رسالة واحدة أساسية، وهي الحفاظ على الاستقرار اللبناني، وذلك في موازاة الاتفاق السعودي-الإيراني على هذا التحييد، خصوصاً بعد تراجع «حزب الله»عن الحكومة التي فرَضها بقوّة السلاح.

ثانياً، إتّفاق الخارج والداخل على قيام حكومة تجمع السُنّي والشيعي حول طاولة واحدة، في مؤشّر واضح إلى رفض استغلال أيّ نقطة ضعف تتمثّل بإقصاء طرف معيّن عن السلطة، كما الفصل بين دور «حزب الله» الإقليمي ودوره المحلي. ولا يبدو أنّ هذا الاتفاق، على رغم التطوّر العراقي، قد انتهى مفعوله وأنّه يتّجه إلى السقوط والانهيار، بدليل رفضِ الاستقالة من الحكومة والحِرص على تجاوز عقبة الآليّة التي نشأت مع الفراغ الرئاسي.

ثالثاً، القرار بالتفجير في لبنان هو قرار إقليمي بالدرجة الأولى، والمسألة تتجاوز القدرة على مواجهة الإرهاب في اللحظة التي يؤخَذ القرار بالتفجير، لأنّ الساحة اللبنانية خصبة بفعل «حزب الله» الذي يواصل تغييبَه للدولة، ويتبع سياساتٍ تستجلب الإرهاب، وبالتالي الكلام عن أنّ ما قام به الحزب في القلمون وغيرها أدّى إلى تجفيف مصادر الإرهاب هو للاستهلاك السياسي وعرض العضلات لا أكثر.

رابعاً، أيّ تفجير في لبنان اليوم، سيكون موجّهاً ضدّ تيار «المستقبل»، الذي يمسك برئاسة الحكومة والوزارات الأمنية، واستطراداً السعودية التي وضعت ثقلها لتحييد لبنان عن خطّ الزلزال الأمني، وبالتالي لا قدرة ولا رغبة في استهداف «المستقبل» والسعودية.

خامساً، أيّ تفجير يتطلّب إمّا بيئة حاضنة خارجية وداخلية أو غضّ نظرٍ على قاعدة أن يقلع «حزب الله» شوكه بيدِه طالما إنّه مُصِرٌّ على مواصلة إقصاء فئة معيّنة، ولكنّ غضّ النظر هذا لم يعُد موجوداً بعد الشراكة في الحكومة والترتيب الإقليمي.

ولكلّ هذه الأسباب، أي تفجير محتمل، وهو احتمال قائم، لا يخرج عن سياق الإرهاب الفردي المتّصل بجماعات صغيرة وإمكانات محدودة، الأمر الذي يعني غياب القدرة الفعلية على التفجير، والذي إن حصل سيكون محدوداً لا مفتوحاً، وبالتالي لا خوفَ على الاستقرار إلّا في حال سقوط التسوية حول لبنان، ولا مؤشّرات إلى ذلك، ما يعني أنّ التوتير في حال استمراره يدخل في سياق التخويف لانتزاع تسوية رئاسية أو وصولاً إلى التمديد النيابي.

ويبقى أخيراً أنّ الارتباك الأمني شكّل نقطة سلبية في سِجلّ الحكومة، ودلّ إلى عدم خبرةٍ، المتضرّرُ الأوّلُ منها هو لبنان وسمعةُ هذه الحكومة التي عليها أن تتعهّد بأنّ ما حصل لن يكون قابلاً للتكرار.