قلّة قليلة تستطيع التوفيق بين القوة والحكمة، وباستثناء هذه القلة فإنّ كل من يمتلك القوة يفتقد إلى الحكمة، ويكفي التوقُّف أمام أقله ثلاثة أخطاء مميتة لـ«حزب الله».

لم يكن مضطراً السيد حسن نصرالله إلى إعلان 7 أيار يوماً مجيداً، لأنّ أي استخدام للعنف والقوة في زمن السلم في مواجهة الشريك الوطني الذي يواجه في السياسة، هو يوم عار. فمشهد المسلحين المنتشرين في بيروت، والذين حاولوا الدخول إلى الجبل، سيبقى محطة سوداء تلاحق الحزب في كل مسيرته، لأنّه كان بإمكانه منع تنفيذ الحكومة لقرارها بنزع شبكة اتصالاته، بدعوة بيئته الحاضنة إلى التصدّي لأي محاولة من هذا النوع، وكان انتهى الأمر عند هذا الحدّ. ولكن الطبع يغلب التطبُّع، والأسوأ انّه لم يكتف باجتياح بيروت، بل رفع شعار «استخدام السلاح دفاعاً عن السلاح»، وأعلن يوم 7 أيار الذي سقط فيه مئات الضحايا والجرحى ودُمّرت الممتلكات باليوم المجيد.


 

وبمعزل عن الاغتيالات ومحاولات الاغتيال التي لم يتبيّن مرتكبها، إلّا انّ الثابت والأكيد انّ الجهة المقرّرة والمنفّذة هي داخلية ومعروفة للقاصي والداني، ولكن احترافها بالقتل حال دون اكتشاف بصماتها. ولكن بمعزل عن هذا الجانب، فالنقطة الإيجابية الوحيدة في 7 أيار، انّ الشريحة التي كانت ما زالت تعتبر انّ وظيفة سلاح «حزب الله» مواجهة إسرائيل، اقتنعت بأنّ المواجهة مع إسرائيل هي الذريعة لوضع اليد على لبنان، وانّ الحزب لن يتردّد في استخدام سلاحه في الداخل، في كل مرة يجد فيها انّ هدفه غير قابل للتحقُّق عن طريق الوسائل السياسية.

 

وعلى رغم ثورة الاستقلال ومشروع «العبور إلى الدولة»، بقيت شريحة داخل الجسم السيادي تدافع عن «مقاومة» الحزب لإسرائيل، وهذا نابع إما عن خوف، او عن عقد مزمنة تؤدي إلى تشويش الرؤية، او عن سوء قراءة سياسية، لأنّ الانقلاب الأول على اتفاق الطائف بدأ مع إبقاء السلاح بيد «حزب الله» بحجة المقاومة، ولكن فالج ما تعالج، حتى جاءت 7 أيار، فاستفاق هذا البعض على خطيئة خلفيته السياسية.

 

ولم يكن مضطراً السيد نصرالله ان يعلن جهاراً ذهابه للقتال في سوريا إلى جانب بشار الأسد، منتقلاً بذلك من دور يدّعيه بأنّه مقاومة، ويدحض فيه القدرة على مواجهة إسرائيل بالأساليب الكلاسيكية، فخرج إلى سوريا كجيش لا كمقاومة تقاتل على طريقة «غيريلا»، ومسقطاً المقولة التي حاول تبريرها وترويجها وإقناع الرأي العام اللبناني بها، بأنّه مقاومة للدفاع عن لبنان، فإذا به يتحوّل علناً إلى جيش لمساندة جيش الأسد، فيما كان بإمكانه ان يقاتل إلى جانب هذا الجيش من دون ان يعلن رسمياً انتقال مقاتليه إلى سوريا.


 

وقد أكّد عبر هذه الخطوة المؤكّد، بأنّه قوة عسكرية تُستخدم لمصلحة المحور الإيراني في اي مساحة وجد قائد هذا المحور انّه بحاجة لقتال «حزب الله»، ما يعني انّه ينفِّذ في قتاله لإسرائيل مهمّة إيرانية لا لبنانية، وهذا أمر معروف طبعاً، ولكن قتاله السوري بدّد الشكوك التي كانت ما زالت ملتبسة للبعض حول وظيفته كقوة تنفِّذ ما تطلبه منها القيادة الإيرانية.

 

ولم يكن مضطراً السيد نصرالله الإعلان عن انّ لديه 100 ألف مقاتل في لبنان، وهذا الإعلان يشكّل بحدّ ذاته إدانة لـ»حزب الله» بوجود جيش رديف للجيش اللبناني، وحتى لو كان هذا الأمر معلوماً بمعزل عن العدد، إلّا انّ المجاهرة به في هذا الشكل يمثِّل استفزازاً للرأي العام اللبناني باعتباره يتعامل معه بفوقية، مرتكزاً إلى سلاحه لتخويفه، وموجّهاً له رسالة واضحة المعالم بأنّ لبنان تحت سيطرته ولن يكون باستطاعته مواجهة عديده، وبالتالي ما عليه سوى الخضوع والتسليم بهذا الأمر الواقع.

 

ولا تقف رسالة نصرالله عند هذا الحدّ، بل تتعداه إلى الدولة بكل مؤسساتها في ضرب للدستور والقانون ودور الجيش اللبناني والمؤسسات العسكرية والأمنية الرسمية، وهي رسالة موجّهة أيضاً إلى المجتمعين الدولي والعربي والولايات المتحدة تحديداً، مفادها انّ لبنان يقع تحت سيطرة جيشه التامة، وانّ اي محاولة لتغيير هذا الواقع ستحوِّل لبنان إلى حطام ودمار وخراب.


 

ولا يشكّل إعلان نصرالله عن عدد جيشه نقطة قوة له على الإطلاق، لأنّ القوي لا يتباهى بجيشه وقوته، خصوصاً انّ هذا التباهي يزيد في تقويض ما تبقّى من دولة ومؤسسات، ويضاعف نقمة الناس وقلقها على مصيرها في دولة محكومة بجيش خارج الأطر الشرعية والدستورية والقانونية، ويتلقّى أوامره من خارج الحدود اللبنانية.

 

والأمثلة الثلاثة هي عينات يوجد الكثير منها، ولكن إن دلّت على شيء، فعلى انّ القوة تعمي البصيرة وتُفقد صاحبها الحكمة، إذ كان بإمكانه وبسهولة تامة إسقاط قرار حكومة الرئيس فؤاد السنيورة من دون اللجوء إلى السلاح، وكان بإمكانه الذهاب إلى القتال في سوريا من دون ان يجاهر بذلك، وكان بغنى عن الإعلان عن الـ100 ألف مقاتل.

 

وأهمية هذه الأخطاء بل الخطايا، بالنسبة إلى خصوم «حزب الله» طبعاً، تكمن في جانبين أساسيين:

الجانب الأول، إسقاطه بنفسه كل نظرية المقاومة، وإثباته انّ الحدود اللبنانية مع إسرائيل هي حدود إيرانية، القرار فيها مرجعيته طهران لا بيروت، كما إثباته انّ جيشه لخطف قرار الدولة اللبنانية.

 

الجانب الثاني، وضع «حزب الله» نفسه في مواجهة مفتوحة مع الرأي العام اللبناني الذي يرفض التعاطي معه بهذه الفوقية، والتعامل مع المؤسسات وكأنّها غير موجودة، وبالتالي المواجهة مع الحزب لم تعد من طبيعة كلاسيكية مع القوى السياسية القائمة بذاتها، إنما تحوّلت إلى مواجهة مع الرأي العام اللبناني برمته، وتحديداً على أثر إعلانه عن الـ100 ألف مقاتل.

 

وأهمية «حزب الله»، بالنسبة إلى خصومه أيضاً، انّه يقدِّم لهم الهدايا الثمينة مجاناً، خصوصاً انّ أي مواجهة متكافئة معه تستدعي تجاوز الأطر الكلاسيكية إلى تحويلها إلى قضية رأي عام، كونه يرتاح للمواجهات الكلاسيكية مع خصوم يتمكّن من التصويب عليهم، فيما المواجهة مع الرأي العام مفتوحة، والدليل إرباكه في كيفية التعاطي مع انتفاضة 17 تشرين.

 

وقد قدّم السيد نصرالله مادة انتخابية ثمينة لكل خصومه ولكل مواطن لبناني يريد دولة ودستوراً وقانوناً ومؤسسات وجيشاً لبنانياً لا جيش «حزب الله»، ولم يعد للحزب بعد أحداث الطيونة-عين الرمانة من مصلحة في إجراء الانتخابات التي سيتكرّر فيها المشهد العراقي، حيث خلصت النتيجة لغير مصلحة طهران على رغم وجودها العسكري عبر تنظيماتها على غرار لبنان، لأنّ المناخ العام اللبناني انقلب رأسا على عقب بعد هذه الأحداث ومواقف نصرالله، وبالتالي البحث عن أي ذريعة أمنية أو دستورية او سياسية لتطييرها سيكون وارداً، باعتبار انّ إعادة تحسين صورته وصورة من يتحالف معه بحاجة إلى أعجوبة، وخسارته للأكثرية النيابية باتت حتمية.