أيّ انقسام سياسي عمودي يستحيل على أفرقائه الوصول إلى تسوية حقيقية لإنهائه، يجعلهم يلجأون إلى أهداف مضمرة بالتوازي مع الأهداف المعلنة، فما هي الأهداف المعلنة والمضمرة لـ»حزب الله» وخصومه؟


المواجهة التي تجدّدت في العام 2005 حول سيادة لبنان على أثر خروج الجيش السوري وتولّي «حزب الله» وظيفة نظام البعث في إبقاء لبنان ساحة لمحور الممانعة أوصَلت معظم اللبنانيين إلى قناعة بأنّ الحلول الكلاسيكية للأزمة اللبنانية متعذرة، لأنه «لو بَدّها تشتي كانت غيّمت»، فالحرب اللبنانية على رغم ضراوتها وحِدتها انتهت بتسوية بعد 14 سنة على اندلاعها، ولا مبرّر لاستمرار الانقسام والصراع والمواجهة سوى في حالة واحدة وهي انّ أحد طرفي النزاع يضع كل ثقله لإبقاء لبنان مُلحقاً بإيران.


ومع انسداد الأفق أمام التسوية التي تعيد الاعتبار لدور الدولة وترسِّخ الاستقرار وتُنهي الانقسام، ومع تثبُّت الفريق الخصم لـ»حزب الله» بأنّ الأخير لم يغادر مشروعه المعلن في وثيقته الأولى في العام 1983 بقيام جمهورية إسلامية في لبنان تحت أمرة الولي الفقيه، أصبح من الطبيعي والبديهي ان يكون للفريق الخصم أهدافه المعلنة وأخرى المضمرة، وفي مطلق الحالات لا بدّ من تفنيد ما هو معلن وما هو مضمر لدى الفريقين:
أولاً، لم يعد يُخفى على أحد بأنّ هدف «حزب الله» المرحلي الحفاظ على الستاتيكو الحالي الذي يخوِّله إبقاء الصراع ما دون سلاحه ودوره من خلال الإمساك بمفاصل القرار في السلطة تَجنباً لأي تهديد يطال أو يؤثِّر على سلاحه ودوره، وما زال منذ العام 2005 يعمل في سياق هذه الاستراتيجية بفعل إدراكه انّ تغيير النظام ليس بهذه السهولة ويتطلب ظروفاً محلية وأخرى خارجية، وبانتظار تَوافر هذه الظروف يواصل قضمه التدريجي للسلطة وجَعل اللبنانيين يتطبّعون مع سلاحه كأمر واقع لا مفرّ منه.

 

وأما الهدف النهائي للحزب فيتراوح بين الحدّ الأقصى إقامة جمهورية إسلامية في لبنان، والحدّ الأدنى تعديل النظام من زاوية تشريع سلاحه بما يُخرجه نهائيا من دائرة النقاش من خلال استنساخ النموذج الإيراني الذي يُزاوج بين دور الدولة ودور الحرس الثوري، ولكنه يتجنّب إعلان هذا الهدف كي لا يستثير غضب أخصامه من جهة، ولإدراكه انّ تحقيق هدفه لا يتم عن طريق إعلانه، إنما من خلال خَلق ظروفه المؤاتية من جهة أخرى.

 

ثانياً، وأما على ضفة خصوم «حزب الله» الاستراتيجيين فالعمل يتم أيضاً على هدفين أساسيين:


الهدف الأول منع «حزب الله» من وضع يده على السلطة كي لا يستخدمها كأداة لتصفية حساباته مع خصومه، والإبقاء على نوع من توازن بين سلطة شرعية وسلطة غير شرعية بانتظار الظروف التي تحسم هذا الصراع لمصلحة قيام الدولة الفعلية، لأنّ خروج الجيش السوري من لبنان ترك فراغاً لم يقدر الحزب على مَلئه، ولا بل في المرحلة الأولى بين عامي 2005 و2008 كانت الأكثرية النيابية والوزارية مع 14 آذار قبل ان يعطِّلها عن طريق سلاحه في أيار 2008 والثلث المعطِّل في اتفاق الدوحة ويُخرج قوى انتفاضة الاستقلال من الحكومة في العام 2011.


وقد نجحت انتفاضة الاستقلال في انطلاقتها في الإمساك بقرار الدولة، وهذه مسألة من طبيعة استراتيجية، ويخطئ من يعتبر انه يجب التخلي عن الدولة للحزب، لأن اي تخلّ من هذا القبيل يجعله يستخدمها للاقتصاص من أخصامه، فضلاً عن ان الهدف الأساس لأي فريق سيادي الإمساك بكل مفاصل الدولة السياسية والعسكرية والأمنية والقضائية والإدارية، ورسم حدود نفوذ الحزب ودوره خارج الدولة، لأن نزع سلاحه بالقوة غير مطروح أساساً، إنما المطروح الفصل بين ما هو شرعي داخل المؤسسات وغير شرعي خارجها.


الهدف الثاني يندرج ضمن حدين: الحدّ الأقصى الدفع باتجاه مؤتمر دولي حول لبنان يشكّل مدخلاً لإنهاء الأزمة الوطنية اللبنانية في ظل استحالة إنهائها لبنانياً، لأن «حزب الله» ليس في وارد تسليم سلاحه، ولأنه في صميم البنية الإيرانية التي تملك مشروعا دينيا توسعيا، والقوى اللبنانية عاجزة عن مواجهة مشروع إقليمي، وهناك مسؤولية دولية في منع طهران من التدخُّل في الشؤون اللبنانية الداخلية، ولا يجوز التخلّي عربيا ودوليا عن لبنان واللبنانيين.

 

ومن الصعوبة بمكان الوصول إلى مؤتمر دولي من دون ظروف داخلية وأسباب لبنانية موجِبة تستدعي التدخُّل الدولي، والأسباب أكثر من ان تعدّ وتحصى، وتبدأ من التهديد الذي يشكله لبنان لاستقرار كل الدول العربية في حال استمر منصة عسكرية وأمنية ودينية وسياسية وإعلامية لإيران، ولا تنتهي بضرب نموذج تعايشي وإنهاء آخر مساحة مسيحية حرّة في الشرق الأوسط.


وأما الحدّ الدنى الذي يمكن العمل عليه في سياق سياسة صمود وحفاظ على الوجود بانتظار الحلّ النهائي للأزمة اللبنانية فيكمن في الخطوات التالية:
أولاً، الحفاظ على التوازن داخل المؤسسات الدستورية قطعاً لطريق استخدامها من قبل الفريق الآخر كأداة لتصفية الحسابات مع خصومه تسريعاً لتحقيق مشروعه وسيطرته الكاملة على الدولة.


ثانيا، إقرار اللامركزية على أوسع نطاق ممكن تمكيناً للبلديات والمناطق والأقضية في الحفاظ على هويتها وخصوصيتها وثروتها المالية والعقارية وبما يعزِّز فرص العمل داخلها في ظل دولة مركزية ميؤوس، حتى إشعار آخر، من وضعها بسبب هيمنة منظومة السلاح والفساد عليها.


ثالثا، تشريع أكثر من مطار ومرفأ بهدف التنمية المناطقية التي تشكل هدفا وجوديا استراتيجيا في ظل دولة مركزية ممسوكة ومعطلة ودويلة تعمل بشكل منهجي ومدروس على تغيير الوقائع الديموغرافية تمهيدا لتغيير هوية البلد ودوره.
ومن الطبيعي ان يكون لخصوم «حزب الله» أجندة أهداف حفاظاً على لبنان التاريخي وتعدديته التي تشكل علِّة وجوده، لأن ما هو غير طبيعي اكتفاء الخصوم باليوميات السياسية في ظل خصم خطير للغاية ولديه مشروع إلغائي لحضورهم ولكل مفهوم الدولة.


وقد تكوّنت قناعة ان الأزمة اللبنانية مستمرة بمعزل عن تراجع حدتها او استعارها، وان لا حلّ لهذه الأزمة بتسويات لبنانية تبقى مؤقتة وظرفية، وان الحلّ إمّا يكون من البوابة الخارجية نتيجة تبدُّل أوضاع خارجية على غرار مرحلة إخراج الجيش السوري من لبنان، وإما بفرض أمر واقع داخلي يؤدي إلى تسوية نهائية حول المفاهيم المؤسسة للكيان اللبناني، وبانتظار ان يتحقّق هذا الاحتمال أو ذاك، خصوصا انه لا يوجد نهائيات ولا أوضاع ثابتة في العالم، يُفترض مواصلة العمل على سياستين أساسيتين: سياسة الصمود حفاظاً على الوجود ومنعاً لبلع لبنان وإلحاقه بإيران وإفشال أهداف «حزب الله» ومخططاته، وسياسة بنك الأهداف المرحلية والاستراتيجية لإنهاء الأزمة الوجودية المستمرة وإعادة لبنان دولة طبيعية كأي دولة في العالم.