دخل لبنان والمنطقة مرحلةَ ما بعد الزلزال العراقي، وأيّ حسابات سياسية لا تأخذ في الاعتبار الواقعَ المستجد هي خاطئة وماضوية، خصوصاً أنّ التوازن الجديد الذي نشأ يتجّه أكثر فأكثر نحو التطبع والترسخ.

بعد مرور أقل من أسبوعين على الانتفاضة العراقية لم تبرز أيّ استعدادات أو قدرة لهجوم مضاد ومعاكس، ولا بل كل الكلام يتركز على تعاون أميركي-إيراني لمواجهة الإرهاب وغارات جوية أميركية ضد مواقع «داعش» وحملة إعلامية غربية تحذّر من تمدّد قوى التطرف، وكأنّ استهداف «داعش» يعالج المشكلة المستجدة، أو التعبئة الغربية تؤدي إلى حلول سحرية للتخلص من الواقع الأصولي، فيما المسؤولية المباشرة لتضخم هذا الواقع تقع على المجتمع الدولي نفسه لجهة تخاذله في حسم الأزمة السورية بإنهاء تسلط النظام السوري على شعبه، هذا المجتمع الذي يبدو أنه يتجّه لتكرار الخطأ السوري في العراق بتحمله مسؤولية حرب أهلية جديدة نتيجة مقاربته السطحية للإنقلاب العراقي من دون النظر إلى عمق الأزمة المتمثل في تغييب مكوّن طائفي أساسي عن المشاركة الوطنية.

فالأزمة العراقية ليست بين قوى تطرّف واعتدال، إنما هي أزمة مزدوجة: داخلية ميثاقية تتمثل باستئثار المكوّن الشيعي بكل مفاصل القرار في السلطة في إحياءٍ للتجربة الصدّامية إنما من مربعٍ شيعي. وخارجية دولتيّة تتجسد في تحويل العراق إلى دولة ملحقة بإيران وسياساتها من دون الأخذ في الاعتبار مصلحة البلد العليا وأولويات المكوّنات الأخرى التي تقتضي تحييد العراق عن صراعات المحاور بدءاً من فصل الساحتين السورية والعراقية وصولاً إلى إقامة علاقات متوازنة وندّية مع دول الجوار.

ومن هنا استهداف الغرب لـ»داعش» سيعمّق المشكلة بتحويل كل السنّة العراقيين إلى داعشيين ويدخل العراق في حرب أهلية مفتوحة قد يصعب هذه المرة حصر تمدّدها، فيما المواجهة الفعلية لـ»داعش» تتم فقط عن طريق وقف سياسات الإقصاء والتهميش وتحويل الأوطان إلى ساحات نفوذ، والمدخل لذلك يكون عبر ترسيم حدود الدور الإيراني وقيام دول تحترم التعدّد والتنوّع في السلطة، خصوصاً أنّ انكفاء الغرب وانسحابه جعل شعوب المنطقة ترسم هذا الدور بدمائها وتعيد خلط الأوراق والتوازنات في كل ساحات الصراع ومنها لبنان.

وفي هذا السياق لا يمكن تفسير إطلالة العماد ميشال عون الأخيرة التي تقصّد توقيتها عبر التمني على النائب سليمان فرنجية ترحيل مقابلته أسبوعاً، إلّا بغية استباق لقاء الرئيس سعد الحريري والنائب وليد جنبلاط مساء اليوم بإطلاق مواقف واضحة لا تحتمل الالتباس برفضه أيّ مساومة على ترشيحه، وإصراره على معادلة «أنا أو لا أحد» التي أرفقها بتحذير مبطن من تداعيات عدم انتخابه، وذلك في رسالة مباشرة إلى الحريري وجنبلاط والحاضر الغائب بينهما «حزب الله» بأنه لن «يسمح» بتمرير أيّ تسوية رئاسية على حسابه.

ولعلّ استشعار عون وجود ما يُطبخ في الكوايس عائدٌ إلى ثلاثة تطوّرات:

أولاً، الأحداث العراقية التي يعلم الجنرال بأنها ستعدل سريعاً في استراتيجية الحزب اللبنانية عبر الإسراع في انتخاب رئيس على مسافة واحدة من 8 و14 آذار، لأنّ عامل الوقت لم يعد يعمل لصالحه، وبالتالي يخشى من أن تؤدي هذه الأحداث إلى تصلب السعودية و»المستقبل» والمناخ السنّي واستطراداً تبدّل ميزان القوى بانتخاب رئيسٍ من 14 آذار.

كما يعلم الجنرال أنّ الحزب الذي تجاوزه في التمديدَين النيابي والعسكري لن يقف على خاطره اليوم، حيث إنّ أولويته إعطاء إشارات حسن نية للشارع السنّي لا المسيحي مع ارتفاع منسوب التعبئة العراقية، وبالتالي سيستعجل تسوية رئاسية تضمن له وصول رئيس يكون شريكاً في تسميته.

ثانياً، مبادرة الدكتور سمير جعجع التي فتحت الباب أمام التوافق على رئيس من خارج 8 و14 آذار، وقد وُلدت هذه المبادرة نتيجةَ رفض عون الامتثال لإرادة مجلس النواب وتفويته على المسيحيين فرصةَ انتخاب رئيسٍ تمثيلي من ضفتي الصراع، كما في محاولة لتقصير مرحلة الفراغ وعدم المساهمة في كشف البلاد في مرحلة مفتوحة على شتى الاحتمالات، وبالتالي فتح جعجع الطريق أمام التسوية الرئاسية، الأمر الذي أضعف حجة عون وموقعه.

ثالثاً، لقاء الحريري وجنبلاط الذي يأتي بعد التطوّر العراقي ومبادرة جعجع والتحوّل الملحوظ في الخطاب الجنبلاطي مترافقاً مع التحوّل في المشهد العراقي، كما بعد وضع رئيس «الاشتراكي» لائحة فيتوات وأخرى للتسويق، حيث تردّد أنّ هذا اللقاء سيطلق يد «بيضة القبان» مجدّداً لتقوم بدور الوصل والتوفيق مع مواقع النفوذ السياسية المحلية لاختيار الرئيس العتيد.

ولكلّ هذه الأسباب أطلق عون لاءاته الرئاسية في محاولةٍ لفرملة الاندفاعة الداخلية بأبعادها الخارجية، ولكنّ حجم الحدث العراقي يفوق قدرة عون على فرملته، حيث الواقعية السياسية التي تحلى بها بتقبله التمديدَين، كما الواقعية التي فرضت على غيره الجلوس مع «حزب الله» حول طاولة مجلس الوزراء، هذه الواقعية نفسها ستدفع معظم القوى إلى التوافق الرئاسي والتمديد النيابي وإعادة استنساخ الحكومة السلامية في سلة متكاملة تمدّد الاستقرار السياسي بعد التسليم بموقع لبنان المتفرج على الأحداث لا المشارك فيها، إنما المتلقي بالتأكيد لتحوّلاتها وتوازناتها... ويبقى أنه من حق الجنرال البقاء خارج هذه التسوية، ولكنه بالتأكيد لن ينجح في إسقاطها ولا حتى فرملتها...