لأن أحداً لا يسعه التكهّن بالأيام والأسابيع، والشهور ربما، التي يستغرقها شغور الرئاسة، تمسي حكومة الرئيس تمام سلام ـ بعدما أضحت بين يديها صلاحيات الرئيس ـ في مهمة مزدوجة الصعوبة لئلا يحلّ الوكيل محل الأصيل طويلاً: ممارسة صلاحيات استثنائية ومداراة تماسكها
رغم أنها ليست المرة الأولى، في ظلّ اتفاق الطائف، تناط صلاحيات رئيس الجمهورية بمجلس الوزراء وكالة بسبب تعذّر انتخاب رئيس جديد للجمهورية في المهلة الدستورية ـــ وكان الرئيس فؤاد السنيورة سبقه الى امتحان كهذا بين عامي 2007 و2008 ـــ يجد الرئيس تمام سلام نفسه يخوض تجربة مماثلة في الظاهر، مختلفة في طريقة إدارتها، متشعبة الأعباء وثقيلة الأوزان التي تتنكّبها:
1 ـــ لا يرأس حكومة الفريق الواحد شأن السنيورة من قبله على رأس حكومة قوى 14 آذار بعد استقالة الوزراء الشيعة الخمسة عام 2006. ما أتاح له إدارة فريق وزاري متجانس ومتماسك، في مرحلة اقتضت تضامن حكومته وجهاً لوجه مع قوى 8 آذار التي طعنت في ميثاقيتها، وحيل دون مثولها أمام مجلس النواب وشُلّ كل مشاريع القوانين التي أصدرتها. عند تسلمها صلاحيات رئيس الجمهورية بعد شغور 2007، تصرّفت حكومة السنيورة على أنها أضحت تتمتع بفائض قوة في الحكم وممارسة السلطة قادها لاحقاً، وحتماً، إلى ارتكاب أخطاء وقرارات غير صائبة.
ورغم فروق غير ذات أهمية في مواقف أفرقاء حكومة السنيورة آنذاك وسبل مقاربتهم الملفات، حافظت في معظم قراراتها والمراسيم التي أصدرتها على إخراجها بالإجماع، بما فيها القراران اللذان اتخذتهما في 5 أيار 2008، في جلسة طويلة استمرت إلى الفجر، قرّرت فيهما تفكيك شبكة الاتصالات الخاصة بحزب الله. في تلك الجلسة تحفظ السنيورة عن القرارين واستخدم عبارة أنه «يتوجس» منهما، ومن النتائج المترتبة عليهما. مع ذلك سلّم بإرادة مجلس الوزراء، فصدر القراران بالإجماع تحت وطأة ضغوط وزراء النائب وليد جنبلاط مروان حمادة وغازي العريضي ونعمة طعمة وتطمينات وزير الدفاع الياس المر إلى أن حزب الله أضعف من أن يبادر بالتحرّك. بمثل إجماعها على القرارين، عادت عنهما بإجماع مماثل بعد أيام على أثر أحداث 7 أيار.
ليس الأمر كذلك مع حكومة سلام. لا هي حكومة الفريق الواحد، ولا حكومة وحدة وطنية. وهي بذلك تحمل عناصر قوتها وضعفها في آن معاً كون الأفرقاء جميعاً يتمثلون فيها ما خلا حزب القوات اللبنانية. ليس بينهم مَن يستأثر بالقرار وحده، أو يلغي حضور الآخر. إلا أنها ليست متماسكة بالمقدار الكافي الذي يمنع انفجارها ما أن تتناقض مصالح قواها أو تتنافر. ورغم أنه يرأس مجلس وزراء يتمتع بصلاحيات رئيس الجمهورية، إلا أن من المبالغة الإعتقاد بأن سلام هو قائد الفريق الحكومي، القادر على اختصاره بمفرده على نحو ما كان عليه السنيورة عامي 2007 و2008. الأصح أنه المتقدّم بين متساوين، هم ــــ إليه ــــ قوى 8 و14 آذار بسبب موقعه الدستوري كرئيس للحكومة، وامتلاكه صلاحيات مستقلة عن مجلس الوزراء الذي يتمتع بدوره بصلاحيات مستقلة عن رئيسه.
في واقع كهذا، يصح القول أيضاً إن سلام يكاد يكون على صورة وزير أول في نظام رئاسي قد تعبّر عنه ــــ إلى حين انتخاب رئيس جديد ــــ القيادة الجماعية لصلاحيات رئيس الجمهورية في مجلس الوزراء.
2 ـــ على سلام الإختيار بين صلاحيات دستورية قد تضطره ممارستها للإصطدام بأحد الفريقين الآخرين، وربما الإثنين معاً، وبين المحافظة على تماسك حكومته وتضامنها ما دامت مظهراً مباشراً للإستقرارين السياسي والأمني. في أحسن الأحوال يقتضي ابتكاره توأمة بين نقيضين في الغالب، في ظروف طبيعية سليمة، يكمّل أحدهما الآخر. إلا أنهما في ظل الحال الإستثنائية الناجمة عن الشغور واستمرار الإنقسام بين 8 و14 آذار، يبدوان متنافرين أكثر مما يُظن.
بل يفتقر سلام إلى امتياز كان قد أعطي لسلفه السنيورة في تجربة عامي 2007 و2008، عندما اعتبرت قوى 14 آذار أنها ـــ كفريق سياسي أكثر منها حكومة ـــ ترث صلاحيات رئيس الجمهورية بعد انطواء ولاية الرئيس إميل لحود، من غير أن تتنازع عليها كقوى مشاركة في هذا الإئتلاف، فإذا بالسنيورة يضطلع، بثقة مطلقة من شركائه، بدور رئيس الجمهورية الظلّ، واجهة حكومته آنذاك في اتصالاته وتحركه الديبلوماسي لدى الخارج. مذ ترأس حكومته هذه، قبل شغور 2007 وإبانها وصولا الى عام 2008، نظر المجتمع الغربي إليه على أنه يمثل الشرعية الدستورية اللبنانية المعترف بها.
ليس الأمر كذلك مع الحكومة الحالية. لا يسع أي وزير القول إنه سيّد حقيبته من دون حاجته إلى موافقة الوزراء الباقين على أي قرار أو مرسوم يُعنى به ما دام الوزراء الـ24 سيوقعون جميعاً القرارات تلك في مرسوم إصدارها. بذلك انتقل الإصدار كإحدى الصلاحيات المهمة لرئيس الجمهورية إليهم جميعاً ما يقتضي موافقتهم. يصح القول أيضاً إن كل وزير يعدّ نفسه معنياً مباشراً بالسهر على صلاحيات رئيس الجمهورية وتطبيقها، ما دام يملك 1/24 من توقيعه. يقال أيضاً في ذلك أن في كل وزير قطعة من رئيس. تنتفي الحاجة، هنا، إلى مغزى التصويت في معرض فرض مرسوم أو قرار على فريق دون آخر. يبقى المرسوم أو القرار حبراً على ورق ما لم يشق طريقه إلى الإصدار، ومن ثم النشر في الجريدة الرسمية. مفاد ذلك أن على الوزير توقيع المرسوم أو القرار بغية إصداره ونشره في معزل عن موافقته عليه انسجاماً مع مبدأ التضامن الوزاري، والحرص على تماسك الحكومة.
لكن ماذا لو لم يفعل، أو اختلف عليه فريقا 8 و14 آذار؟
كانت حكومة السنيورة وضعت مشروع قانون دستوري بتعديل المادة 49 بغية إزالة المانع الدستوري من طريق انتخاب قائد الجيش العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، بعدما تبنته قوى 14 آذار مرشحاً توافقياً. في جلسة إقرار المشروع في مجلس الوزراء تحفظ وزيرا المال والإقتصاد جهاد أزعور وسامي حداد عنه ودوّنا اعتراضهما في المحضر، إلا أنهما وقعا المشروع في مرسوم الإحالة على مجلس النواب، آخذين في الإعتبار التضامن الحكومي. الإمتحان الفعلي الذي يقتضي أن تواجهه حكومة سلام.