لا البرلمان يجتمع لانتخاب الرئيس، ولا التشريع مسموح به، ولا مجلس الوزراء يتفاهم على انتقال الصلاحيات إليه. بعيداً من آلة الحكم المجمّدة، بات كل ما يسيّر الدولة أسير التفاوض بين الرئيسين ميشال عون وسعد الحريري. كل ما هو عالق يتوقف على: ماذا يريد الجنرال؟

تراجع انتخاب رئيس جديد للجمهورية من الصدارة إلى الوراء، وتقدّم عليه الجدل الدائر في حكومة الرئيس تمام سلام بإزاء ممارسة صلاحيات الرئيس بعد انتقالها إلى مجلس الوزراء. بالتأكيد، لن يكون التفاهم عليها أقل سهولة من الاتفاق على انتخاب الرئيس، ما دام المطلوب من إدارة الصلاحيات أداء الدور نفسه لرئيس الجمهورية. بذلك تصبح الرئاسة المؤجلة وإدارة السلطة الإجرائية انتقالياً وجهين لفريق واحد، نجح في التحوّل مفتاحاً رئيسياً واستثنائياً لكلا الاستحقاقين. من دون الرئيس ميشال عون لا انتخابات رئاسية. ومن دونه أيضاً لا قدر للحكومة أن تجتمع وتدير مجلس الوزراء. وقد يفاقم الأمر اقتراب المهل القانونية للانتخابات النيابية بعد أقل من ثلاثة أشهر.

وسواء عُدّ موقفه مفتاح الحل والعرقلة في آن واحد، أضحى عون بالفعل حجر الرحى الذي تدور من خلاله المؤسسات الدستورية كلها أو تتجمّد. كذلك الأمر مع استحقاقات باتت مترابطة الحلقات من جهة، ومستعصية تفكك إحداها عن الأخرى من دون تسوية تشملها كلها على السواء من جهة أخرى. يعكس هذا التقدير ما قاله مرجع رسمي في معرض التعليق على دور عون في الانتخابات الرئاسية وحكومة سلام: «نحن معه حتى يتعب ميشال عون من ميشال عون. وقد لا يتعب».
يقترن هذا الموقف ببضع ملاحظات أصبحت لصيقة الرجل:
أولاها، خلافاً لتوقع بعض الأفرقاء بأن المهلة الدستورية لانتخاب الرئيس من شأنها إنهاكه وإشعاره بانحسار حظوظه نهائياً، مدّد رئيس تكتل التغيير والإصلاح مرحلة المواجهة مع الاستحقاق إلى أمد غير منظور حتى الآن على الأقل. بانقضاء المهلة الدستورية لم يُشح النظر عن أنه صاحب الحظ الأوفر، ولا أوصد أبواب التفاوض مع الرئيس سعد الحريري، مع أنه لم يفز منه بأي موقف جدّي وملموس يعزز وصوله إلى الرئاسة. بسبب ذلك، يتصرّف عون على أن من حقه الترشح، مقدار حقه في عدم الترشح.
ثانيها، رغم ما يشيعه المحيطون القريبون منه من أن الانتخابات الرئاسية لا تزال أولوية لديه، واقع الأمر أنه قلب ضمناً الأولويات رأساً على عقب. هدفه المباشر في الوقت الحاضر هو الانتخابات النيابية المقرّرة قانوناً بين 20 أيلول و20 تشرين الثاني، اليوم الأخير من الولاية الممددة للبرلمان الحالي. أكثر من أي وقت مضى، بات عون متيقناً من أن الانتخابات النيابية باتت الوسيلة الجدّية للوصول إلى انتخابات رئاسية تبقيه الأوفر حظاً. في الخطاب السياسي المعلن ـــ المتفق في الدوائر المغلقة المحيطة به على الإفصاح عنه ـــ تتدرّج الأولويات كالآتي: انتخاب رئيس للجمهورية، قانون الانتخاب، الانتخابات النيابية. بيد أن المعادلة الفعلية تبدأ من طريق الإياب لا الذهاب.
ثالثها، لا تساور عون شكوك في أن أكثر من كتلة نيابية كبيرة تتحضّر لتمديد ولاية مجلس النواب مرة أخرى بحجة مختلفة هذه المرة، لا تتذرّع بالوضع الأمني في طرابلس، هي شغور رئاسة الجمهورية وتوجيه الاهتمام إلى هذا الاستحقاق دون سواه. لا يكتفي عون بالإصرار، للمرة الثانية على التوالي بعد 31 أيار 2013، على رفض التمديد، بل يعتقد بأن تمديداً ثانياً للمجلس يتوخى إخراجه نهائياً من انتخابات الرئاسة. كان قد دار حوار بينه وبين الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في الأسابيع القليلة التي سبقت ذلك التمديد. ألحّ عليه حليفه الشيعي مجاراته في خيارَي التمديد لقائد الجيش العماد جان قهوجي ومجلس النواب. دافع نصرالله عن موقفه بأنه يقاتل بضراوة في سوريا إلى جانب الرئيس بشار الأسد، مستخدماً عبارة أن «الأمعاء صارت على الأرض» من جراء كلفة مؤازرة النظام، فيما الجيش اللبناني يحمي له ظهره في البقاع. وهو كان يحتاج إلى بقاء قهوجي على رأس المؤسسة العسكرية في ذلك الحين، أياً تكن الوسيلة بعدما استحالت في حكومة نجيب ميقاتي، من أجل اطمئنانه إلى عدم استهداف الحزب من الخلف. يومذاك أثار عون ـــ وكان يمانع في التمديد لقائد الجيش ـــ مخاوفه من تعديل الدستور في ما بعد لانتخاب قهوجي رئيساً، فردّ نصرالله بأن الأمر في أوانه. مع ذلك صوّت تكتل التغيير والإصلاح ضد تمديد ولاية البرلمان.
نجمت استعادة ذلك الحوار من أهمية ما نُسب إلى السفير السعودي علي عواض عسيري في لقائه الأخير البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي في 16 أيار قبل سفره آنذاك، قائلاً ما يُستشم موقفاً مناوئاً لانتخاب عون رئيساً، وفي الوقت نفسه تحديد مواصفات الرئيس الجديد كما تريده المملكة: الرئيس القوي في تقديري بلادي هو الذي يقول لا لحزب الله و(الرئيس) بشار الأسد، ويقول لا لأي مسّ باتفاق الطائف، ويضع القرار المالي في رئاسة الحكومة.
رابعها، أن عون بات يشعر فعلاً بأن ثوب التفاوض مع الحريري بدأ يضيق عليه ويكبّل مقدرته على التحرّك: لا تتوقف بكركي عن انتقاده علناً لمقاطعته جلسات انتخاب رئيس الجمهورية، يتفادى الرد على حملات يشنها عليه نواب في تيار المستقبل رغم استمرار حواره مع زعيمهم ووقوف التيار من جهة أخرى إلى جانبه في مقاطعة جلسات التشريع في البرلمان، يشعر باستهداف يطاوله من جهات عدة بسبب يقينه بأنه يستحق الرئاسة.
خامسها، لا يضع عون مهلة محددة يوصد بعدها أبواب التفاوض مع الحريري، إلا أنه يرى جازماً أن 20 آب، موعد توجيه الدعوة إلى الهيئات الناخبة للانتخابات النيابية، سيتحوّل عبئاً عليه وعلى الحريري في آن واحد. من دون أن يحدّد هو أو الطرف الآخر في التفاوض هذا الموعد، لن يسعهما عندئذ الاستمرار في تلك الحلقات، ما يقتضي استطراداً مناقشة التحالفات الانتخابية.
سادسها، على وفرة ما يتردد من أن الحريري لن يسلّم به رئيساً للجمهورية، يلاحظ عون أن الرجل أحوج ما يكون في المرحلة الحاضرة والقريبة إلى «توقيع السرايا». وتحديداً إلى أن يكون رئيساً للحكومة لدوافع شتى أبرزها تخلّصه من الأزمة المالية التي يتخبط فيها على أبواب مرحلة قد تكون وشيكة، تمكنه من استرداد المبادرة السياسية والمالية التي يتطلبها.
لا يكمن القلق عند هذا الحدّ فحسب، في تقدير مكامن الضعف عند الرئيس السابق للحكومة، بل أيضاً في خوفه ـــ كما خوف طائفته ـــ على اتفاق الطائف من إطاحته. استعجال انتخاب الرئيس الجديد أحد المبرّرات الملحة التي يريدها الحريري في سبيل إنقاذ الاتفاق وحمايته، بما تعنيه صلاحيات طائفته ودورها الطاغي في النظام قد ضمنه لها الاتفاق في متن الدستور، وتفادياً لخيارات بديلة.