الشرط الأول: أن لا يتمّ اللجوء إلى الاستخارة إلاّ بعد أن تتشابك الأمور عند الإنسان وتتشابه عليه الخيارات، ولا يتّضح له وجه المصلحة من المفسدة، فيظلّ محتاراً متردِّداً لا يهتدي سبيلاً ولا يعرف ماذا يفعل، ففي هذه الحالة يكون للاستخارة مجال واسع، أمّا مع اتضاح الصورة لديه وتشخيصه- ولو بمشورة الآخرين- بأنّ في الإقدام على هذا العمل أو ذاك مصلحةً بيّنة، أو مفسدة بيّنة، فلا مجال للاستخارة حينئذ، قال تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}[آل عمران: 159].

وعلى سبيل المثال: لو أنّ بعض المؤمنين اْبتُلِيَ هو أو أحد أطفاله بمرض، فلجأ إلى الاستخارة، ليحدّد على ضوئها إذا كان ثمّة مصلحة في أن يذهب إلى الطبيب أم لا، فإنّه بذلك يرتكب خطأً فادحاً، لأنّ هذا ليس مورداً للاستخارة، إذ الموقف في هذه الحالة واضح وبيّن، وهو أنّ عليه أن يذهب إلى الطبيب بهدف العلاج، لأنّ الذي خلق الداء خلق الدواء، والرجوع إلى أهل الخبرة يمثّل قاعدة عُقلائيّة وشرعيّة، قال تعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}[الأنبياء: 7]، نعم لو أنّه عزم على مراجعة الطبيب، لكنّه تردّد بين طبيبين ماهرين من أهل الاختصاص عينه، فهنا لا مانع من الرجوع إلى الاستخارة لحسم الموقف وترجيح أحد الطبيبن على الآخر.

 

الاستخارة ليست بديلاً من التفكير

 

الشرط الثاني: أن يستنفد المرء التفكير في المسألة ودراستها من جميع جوانبها بهدف التعرّف على ما فيه مصلحته أو مفسدتهُ ليقْدِم على الفعل أو الترك وهو على بصيرة من أمره. إنّ مدارسة الأمر لا بدّ منها، لأنّ الاستخارة ليست بديلاً من التفكير، ولا ترمي إلى تجميد العقل، أو إقالته من مهامه، والله سبحانه وتعالى أراد لنا أن نتحرّك وفق منطق السُّنن، وأن ندرس قضايانا برويّة وتدبّر، وبناءً عليه فما يفعله بعض المؤمنين من المبادرة إلى استخدام الاستخارة قبل أن يُكَلِّف نفسه عناء البحث ودراسة الأمور في سبيل التعرّف على ما هو الأصلح له، هو بالتأكيد عمل غير مَرْضِيّ من الناحية الدينية، وربّما مثّل نوعَ انحرافٍ عن المسار العقلائي العام الذي أرادنا الله أن نتحرّك على أساسه في حياتنا، كما أنّ ذلك يسهم في بناء شخصية اتكالية متردّدة لا تملك الثقة بالنفس، وليس لديها جرأة اتخاذ القرار، ولذا تلجأ إلى الاستخارة، تهرّباً من تحمّل المسؤوليّة.

 

الاستشارة قبل الاستخارة

 

الشرط الثالث: وكما أنّ التفكير العقلائي الجادّ لا بدّ أن يسبق اللجوء إلى الاستخارة، فإنّه لا بدّ أن تسبقها المشورة أيضاً، فبعد أن تتمّ دراسة المسألة من جميع وجوهها ولا يصل المرء إلى نتيجة مُرْضِيَة، أو يبقى حائراً، فيجدر به- وقبل الاندفاع نحو الأخذ بالاستخارة- أن يلجأ إلى أهل الرأي والخبرة والتجربة، ليستشيرهم ويستنير بآرائهم، ومن هنا فقد قال أمير المؤمنين عليٌّ : "من استبدَّ برأيه هلك، ومن شاور الرجال شاركها في عقولها" ، وإذا بقي المرء محتاراً ومتردِّداً حتّى بعد مشاورة الآخرين من ذوي الرأي والتجربة، فبإمكانه– آنذاك- أن يلجأ إلى الاستخارة.

 

لا خيرة في أحكام الله

 

الشرط الرابع: أن نبتعد عن العمل بالاستخارة في ما يكون حكمه الشرعي واضحاً، فالاستخارة ليس لها مجال في أحكام الله, ولا في إثبات موضوعات الأحكام الشرعيّة، فحينما يستخير شخص على ترك الصلاة، أو على شرب الخمر، أو على ارتياد نادٍ للقمار، أو على قطيعة الأرحام، أو على الفرار من الزحف والجهاد، فهو بذلك يرتكب خطأً كبيراً، وينحرف عن الصراط السويّ، لأنّ الله سبحانه وتعالى لم يُعلِّق امتثال أحكامه الشرعيّة على إذن أحد، ولا رَبَطها بتحقّق شرط أو قيد، باستثناء الشروط العامة للتكليف من البلوغ والعقل والقدرة، أو الشروط الخاصة والتي تختلف من مورد لآخر، أمّا ما سوى ذلك، كمشورة الآخرين أو الاستخارة- مثلاً- فلا تُناط بها أحكام الشرع لا جعلاً ولا ثبوتاً، ولا امتثالاً وسقوطاً، تماماً كما لم تُعلَّقُ أحكام الله على القرعة.

وما قلناه في الأحكام الشرعيّة نقوله أيضاً في موضوعات الأحكام، فلا تشرّع الاستخارة لتحديد وتعيين الطاهر من النجس في الثياب أو الأواني أو غيرهما ولا لتحديد أنّ هذا اليوم هو من رمضان، أو من شوّال، مثلاً، أو لتحديد أنّ هذا السائل خمر أم عصير عنبي، إلى غير ذلك من الموضوعات.

 

الخيرة والتنبّؤ بالمستقبل

 

الشرط الخامس: أن نتجنّب استخدام الاستخارة بهدف استطلاع المغيَّبات أو التعرّف على مآلات الأمور وما سيحدث في مستقبل الأيام، وما تخبّئه للإنسان من أفراح أو أتراح، أو استخدامها لأجل تحديد جنس المولود الذي سيُرزق به, وأنّه ذكر أو أنثى، أو أنّ الطالب سينجح في الامتحان أو لا، فإنّ هذا أيضاً ونظائره يمثّل استخداماً خاطئاً للاستخارة، ولا تساعد عليه أدلّتها، وهو أقرب إلى التنجيم المرفوض شرعاً ولم يلتزم بهذا النحو من الاستخارة أحدٌ من الفقهاء، وبكلمة مختصرة: إنّ هذا ليس مورداً سليماً للاستخارة.

تكرار الاستخارة

 

الشرط السادس: الابتعاد عن العبث في استخدامها، ومن موارد العبث هذه، تكرار الاستخارة على الأمر الواحد لمرّات عديدة، كما يحصل مع بعض الأشخاص، فإنّ هذا لا مبرّر ولا وجه له، فإنّ الاستخارة في كلّ أمر تكون مرة واحدة ، اللهم إلاّ إذا تغيّرت الظروف وتبدّل الموضوع، وقد يكون دَفْعُ الصدقةِ عاملاً مؤثراً في تبدّل الموضوع، لأنّ الصدقة تدفع البلاء ، وعلى سبيل المثال: لو أنّ شخصاً استخار على السفر فخرجت نهياً، فعاود الاستخارة في الوقت عينه على السفر نفسه، فإنّ عمله هذا يُعتبر لعباً وعبثاً غير مقبول، وعليه في هذه الحالة أن يأخذ بالاستخارة الأولى دون الثانية كما يرى بعض الفقهاء.

 

من كتاب "تحت المجهر " لسماحة العلامة الشيخ حسين الخشن